المصدات الجماعية

تفسر نظرية المعرفة التوحد في سياق عدم اكتمال نمو الأفكار؛ أي بمعنى عجز قدرة الطفل على تحويل الانفعالات الى رموز تعبيرية فتتشابه في عينه النوايا والرغبات والانفعالات، فهم عقلي يمكِّن الإنسان من فك شيفرة تصرفات الآخر، هذه الاستطاعة تمنح المصاب القدرة على فهم معنى الانفعالات الرمزية لدى مجتمعه فتمكنه من قراءتها والتفاعل معها وتمثلها إن أعجبته.
وفي تحليل آخر، برزت نظرية حول ضعف الترابط والتماسك المركزي بمعنى عدم قدرة المصاب على إنتاج نظام وتراتبية معينة للأحداث، وهو ما يشابه ما تراه القشطلت التي ترى نزعة العقل الدائمة الى إدراج الجزئيات المنفصلة الى صورة كاملة لنتمكن من استيعابها ومن هذا الفهم نجد أن التوحد يعمد لإغراق المصاب بدوامة التفاصيل اللامتناهية فيمنعهم من الانتقال من الجزء للكل، وبنسق مواز، حاولت الفرضية البيوكيميائية تحليل ما سبق من خلال خلل في النواقل العصبية المكونة من مواد كيميائية، تفاصيل إن استدرجتنا سنجد أنفسنا غارقين في تفاصيل بلا نهاية قد تقودنا الى تشعبات تتعلق بنظرية المؤامرة حول المطاعيم أو التلوث وربما ظروف الحمل وغيرها من التفرعات التي ستشتتنا عن الوصول لسر هذا الاضطراب النمائي المحير.
وبالعودة لجذر التسمية، فالتوحد ممتد من الجذر المشير للذات، سبك المصطلح عالم النفس (ايوجين بلولر) في مطلع القرن العشرين وكان يشير فيه حينها الى ما يعرف بانسحاب الارتباط الاجتماعي عند المصابين بالفصام، وبعد ما يقارب ثلاثة عقود 1943 قام العالم (كانر) بتأطيره في سياق علمي تلاه بعام طبيب الأطفال النمساوي (هانز آسبرجر) ليشخص طيفا آخر عرف باسم متلازمة (أسبرجر)، ولتعدد أنواع وأشكال طيف التوحد نشأ هذا الخلط الكبير في تشخيصه، لذلك تم حصرها بخمسة أنواع قابلة للزيادة، هذا التشابك أدى للخلط مع باقي المعضلات النمائية والنفسية.
إذن فهذا التشوه بفهم المرض يعود للبداية؛ حيث شخص الطيف على أساس أنه مرض نفسي، وبالتقدم العلمي أدرج ضمن الاضطرابات السلوكية الانفعالية، وفي الألفية الثالثة ألحق بالاضطرابات النمائية.
في المخ، وباعتباره أكبر معامل الدماغ حيث مستودع الماضي ورؤية المستقبل والخيال، يسيطر نصفه الأيسر على نصف الجسد الأيمن حيث الموسيقى والاستجابات الانفعالية والنصف الأيسر على الأيمن من الجسد حيث اللغة والكلام، وهنا تكمن إحدى مشكلات بعض أبناء الطيف؛ حيث وجد أن جزءا منهم لا يخضع لقاعدة انعكاس الإدارة تلك، مؤشرات كثيرة وأسئلة أكثر بحاجة لبحث حقيقي في ما يعانيه بعض المصابين من واحد من الأعراض الأكثر صعوبة في الفهم كالمصاداة أو الإيكولاليا وهي ما يعرف بتكرار كلمات معينة أو قصور في التواصل البصري أو عدم القدرة على التفاعل الاجتماعي أو التعلق أو الانعزالية وقصور إدراك الهوية الذاتية.
يحكم كل ما سبق صعوبات في قدرتنا على تمرير شفرة التواصل من عالمنا الى عالم الطفل لبناء شراكة، إنها اللغة التي نعجز عن تمريرها لهم بصفتها مفتاح الحل، كما يراها (ديلور) و(سبيل) وغيرهما من العلماء في نماذجهم العلاجية، فنحن بحاجة للمزيد من الدراسات لسبر هذا العالم المهمل بحثياً، فمن نجحوا باجتياز هذا المرض والعبور منه لعالمنا قادوا تغييرات عظمى في كل زوايا الأرض وعلى رأسهم (اينشتاين) و(بيل جيتس) وفنياً (فان غوخ)، إنه عالم مليء بالعظمة إن ساعدنا من علقوا بداخله، وفي أسوأ تقدير سندرك من خلال فهمنا للتوحد الصورة الكلية ومعضلتنا الكبرى التي ألمت بمجتمعنا ككل والذي يعاني الأعراض ذاتها من انعزالية وقصور التواصل وعدم النضج في التفاعل الاجتماعي وعجز في الإحاطة بالهوية وتكرار مفردات عبثية في مصادات جماعية لا تتوقف.

أخبار أخرى