صدى الشعب – كتب د. فيصل القاسم
كي لا نضيع في متاهات السياسة وتعريفاتها الفلسفية الكثيرة، فلنعد إلى تعريفها البسيط ألا وهو أن هدف السياسة ومبتغاها هو الإنسان بالدرجة الأولى، فالسياسي حسب المفهوم الديمقراطي الحديث لا يمكن أن يصل إلى منصبه أصلاً من دون تفويض شعبي، أي أن الشعب يفوضه لإدارة شؤونه من أجل الصالح الشعبي أولاً وأخيراً، وأي سياسة خارج هذا المفهوم ليست سياسة مطلقاً، بل نصب واحتيال من أجل مصالح ضيقة وإرضاء لأهواء ونزعات وشطحات شخصية.
وهذا النوع من السياسة رغم دناءته وابتذاله إلا أنه مازال النمط السائد في بلادنا العربية، حيث ينحصر اهتمام السياسة والسياسيين بمصالحهم وأهوائهم وإيديولوجياتهم ونزعاتهم الشخصية المريضة فقط، حتى لو داسوا على مصالح الشعب كلها، والسبب طبعاً أننا على عكس كل الشعوب والأمم التي تحترم نفسها، مازلنا ممنوعين من اختيار من يمثلنا ويسهر على مصالحنا في الحكومات والبرلمانات ومحاسبته، لهذا مازلنا نقبع في مؤخرة الأمم على كل الأصعدة، لأن تحقيق مطالب الإنسان وتأمين حقوقه واحترامها باختصار ليست هدف السياسة والسياسيين، بل إن الإنسان هو مجرد أداة من أدوات السياسة العربية القذرة.
ورغم أن مثل هذا الكلام قيل وتكرر عشرات المرات على مدى العقود الماضية، فنحن مضطرون اليوم على ضوء ما نراه من خراب ودمار وتهجير واستباحة للبشر والحجر أن نعود إلى المقارنات المكررة بين مفهوم السياسة في بلادنا التعيسة والسياسة التي أوصلت البلدان المتقدمة إلى أعلى درجات الرقي الحضاري والإنساني والتكنولوجي والصناعي والعلمي والثقافي.
في الغرب، كما هو معروف، تستنفر الدولة بكل أركانها لإنقاذ مواطن ضائع داخل البلاد أو خارجها، ويرسلون الطائرات والجيوش للبحث عنه وإنقاذه، ولو كان مختطفاً خارج البلاد يتدخل رئيس الدولة نفسه مع الحكومات الأجنبية لإنقاذ مواطنه وتحريره، وفي أمريكا مثلاً يمكن أن يقدموا تنازلات ومغريات كثيرة لنظام أجنبي ما مقابل الإفراج عن مواطن أمريكي. ولا ننسى طبعاً كيف تفرج لنا إسرائيل عن آلاف الأسرى والمساجين أحياناً مقابل استعادة رفاة جندي أو أسير إسرائيلي. وهذه طبعاً وصمة عار في جبين العرب الذين يُجرون مثل هذه الصفقات مع إسرائيل وغيرها، لأنها تعبر عن احتقارهم لأنفسهم وشعوبهم بالدرجة الأولى.
ولو نظرنا اليوم إلى ما يجري في بلادنا حيث تستعر الحرب بين إسرائيل وبعض الأطراف العربية لوجدنا أننا لم نبرح تقاليدنا السياسية العفنة قيد أنملة، فما زلنا نسير على نفس النهج القميء الذي يعتبر الإنسان آخر همومه واهتماماته. لا شك أن تحرير الأرض والدفاع عنها يتطلب تضحيات جساماً، لكن بشرط أن تتحرر الأرض فعلاً وأن يكون مردود الحرب عظيماً يتناسب مع حجم التضحيات والخسائر المادية والبشرية الفادحة، لا أن يكون مجرد عنتريات سخيفة ومعارك عبثية تزيد الطين بلة. ما الذي تحقق أو سيتحقق لشعوبنا يا ترى على ضوء ما نراه في الحروب الدائرة اليوم؟ لماذا مازلنا نتعامل مع شعوبنا كما لو كانت مجرد قطعان يمكن أن تسوقها للذبح في أي وقت بعشرات الألوف غير آبه بحياتها وقيمتها وكرامتها وسلامتها وحمايتها؟
كم شعرت بالقرف قبل أيام وأنا استمع إلى محلل لبناني وهو يقول إننا لم نخسر حتى الآن في المواجهة مع إسرائيل سوى بضعة آلاف قتيل ومصاب.
والمشكلة أنه استخدم كلمة “فقط” وهو يتحدث عن الخسائر البشرية “المعقولة” برأيه.
ولا أعتقد أن ذلك المحلل كان يتحدث من وجهة نظر شخصية، لا أبداً فهو يمثل العقلية المريضة والمنحرفة والقذرة التي يعمل بها النظام الذي ينتمي إليه. هكذا يفكر كثير من العرب فعلاً منذ أيام هزيمة سبعة وستين.
وكلنا يتذكر وقتها كلام أحد السياسيين السوريين الكبار الذي قال حرفياً: “إن العدو فشل في حربه معنا، صحيح أنه احتل أرضنا وقتل الآلاف منا جنودنا، لكنه لم يستطع أن يُسقط نظامنا الوطني”.
يا للوطنية. قال وطني قال. كيف لو لم يكن وطنياً لا سمح الله، لربما ضحى بالبلد والشعب كله مقابل الحفاظ على النظام. هكذا يفكرون فعلاً، فلا يهمهم إذا تشرد الشعب بالملايين وتدمر ثلاثة أرباع البلد ولم يبق لا اقتصاد ولا زراعة ولا من يحزنون طالما أن النظام مازال صامداً.
وما سمعناه من المسؤول السوري عام سبعة وستين يتردد اليوم وبنفس الفجاجة والوقاحة عندما تسمع كثيرين وهم يقولون إن نتنياهو قد فشل فشلاً ذريعاً لأنه لم يستطع أن يقضي على المقاتلين كلهم. لا بأس أن يحرق نتنياهو غالبية المقاتلين، لكن بما أن هناك بعض المقاتلين مازالوا صامدين أمامه، فهذا يعني أن نتنياهو قد فشل.
ماذا تريد من نتنياهو أن يفعل بك وببلدك وبشعبك أكثر مما فعل أيها المحلل الاستراتيجي الفذ ؟ هل تدمير البشر والحجر وتسوية المدن بالأرض وتهجير ملايين البشر وقتل وإصابة مئات الألوف مجرد تفصيل ثانوي في معركتكم المقدسة؟ لماذا تتعاملون مع البشر وكأنهم مجرد نفايات؟
سأتفق معك مرة ثانية بأن تحرير الأرض يستوجب تقديم تضحيات كبرى، لكن أعود وأتساءل: ما هي النتيجة التي ستحصل عليها بعد كل تلك التضحيات هنا وهناك؟ ألا تناشد العالم بأن تتوقف الحرب والتدمير والإبادة والعودة إلى ما قبل اليوم الذي بدأت فيه الحرب؟ إذا كنت اليوم تطالب بالعودة إلى الوضع ما قبل بداية الحرب، فلماذا دخلت الحرب أصلاً؟ ألم تسمع ما قاله المفكر والمخطط العسكري الاستراتيجي الشهير كلاوس فيتز: “لا تدخل حرباً قبل أن تعرف مقدماً كيف ومتى تخرج منها”. والسؤال هنا لماذا يجازف السياسي العربي بحياة الملايين من البشر من أجل إرضاء تهوره ورعونته وسذاجته وسخافته ونزواته الخاصة؟ لماذا يضحي بالبلد والشعب دون أن يكون لديه أدنى تصوّر عما ستؤول إليه الأمور؟ أليس الغباء والتهور والسذاجة في القيادة أخطر بكثير من العمالة والخيانة؟
شتان بين السياسة والنجاسة والنخاسة. عندما لا تكون كرامة الإنسان ومصالحه وحريته وسلامته وحمايته وتأمين كل حاجاته ومتطلباته ورفاهيته، عندما لا يكون كل ذلك هو هدف السياسة وغايتها الأولى والأخيرة، تصبح السياسة مجرد نجاسة وسوق نخاسة. هل لدينا اليوم سياسيون، أم إن أغلبهم نخاسون نجسون؟
إعلامي سوري