صدى الشعب – كتبت سُهاد طالباني
مع قرار حزب العمال الكوردستاني التاريخي بنزع السلاح، تقف تركيا ودول الجوار على عتبة مرحلة جديدة، لا تُعرّفها أصوات البنادق، بل يميّزها التحدي الأكبر: بناء سلام قابل للاستمرار. المسألة الآن لم تعد مرتبطة بما حدث، بل بما ينتظر الكورد داخل تركيا، ومستقبل الديمقراطية التركية، والاستقرار الهش في الإقليم.
في المرحلة الأولى، ستُطرح قضية إعادة دمج آلاف المقاتلين السابقين في المجتمع، وهي مهمة معقدة تتطلب إدارة دقيقة. حيث من المنتظر أن يُنشئ البرلمان التركي لجاناً وآليات قانونية للإشراف على هذه العملية، لكن فاعلية هذه الأطر ستُحدد ما إذا كان المقاتلون السابقون سيُعاملون كمواطنين كاملي الحقوق، أم سيُدفعون نحو التهميش. إن مدى استعداد الحكومة لتقديم ضمانات قانونية وفرص حقيقية للمشاركة في الحياة العامة سيكون بمثابة اختبار فعلي لجدية التزامها بالمصالحة. أما إذا أُدير هذا الملف بطريقة متخبطة، فثمة خطر حقيقي من انزلاق بعض الفئات نحو المجهول، بما في ذلك خيار العمل المسلح.
على المستوى السياسي، يمثّل انتهاء النزاع المسلح فرصة نادرة أمام الأحزاب الكوردية للدفع باتجاه إصلاحات طال انتظارها. ومع زوال شبح الارتباط بالعمل المسلح، يبدو أن حزب المساواة وديمقراطية الشعوب يستعد لتكريس موقعه كقوة برلمانية فاعلة، تدافع عن الحقوق الثقافية، وحرية اللغة، وتمثيل الكورد بشكل أوسع في مؤسسات الدولة. لكن هذا التفاؤل لا يخلو من الحذر: هل ستستغل الدولة التركية هذه اللحظة التاريخية لمعالجة المظالم الكوردية؟ أم أنها ستوظف الهدوء لإحكام قبضتها وتهميش المعارضة؟ الإجابة على هذا السؤال ستحدد ليس فقط مستقبل القضية الكوردية، بل أيضاً مسار الديمقراطية في تركيا.
أما من الناحية الأمنية، فالتحديات ستستمر، صحيح أن التوقعات تشير إلى تراجع كبير في العنف المتبادل، لكن الخطر لا يزال قائماً، فالحفاظ على السلم يتطلب الحذر، وتدابير لبناء الثقة، وجهودًا صادقة لمعالجة الأسباب الجذرية التي غذّت العمل المسلح طيلة العقود الماضية. ومن المؤكد أن طريقة تعامل الدولة مع أي استفزازات ستخضع لرقابة مشددة: فمقاربة أمنية عنيفة قد تقوّض بسهولة كل ما تحقق.
إقليمياً، من المرجح أن يُعيد نزع السلاح رسم ملامح المشهد. ففي العراق، قد يؤدي انسحاب مقاتلي الحزب إلى تخفيف التوتر وتهيئة الظروف لعودة المجتمعات النازحة، ما قد يفتح الباب أمام صفحة جديدة في العلاقة بين أنقرة وبغداد.
وفي سوريا، يدور الحديث عن إمكانية دمج قوات سوريا الديمقراطية، التي طالما شكّلت نقطة توتر بين تركيا وقوى إقليمية، ضمن مؤسسات الدولة، رغم أن ذلك يتطلب تنسيقاً غير مسبوق ومفاوضات حساسة. أما في إيران، حيث ترفض الجماعات الكوردية المرتبطة بالحزب خوض تجربة نزع السلاح، فإن التعقيد يتعمّق ويكشف حدود ما يمكن للسياسة التركية إنجازه بمفردها.
دولياً، قد تسهم هذه الخطوة في ترميم علاقات أنقرة المتوترة مع حلفائها الغربيين، الذين لطالما اعتبروا نشاط الحزب عقبة أمام تعزيز التعاون الأمني. لكن يجب الاعتراف بأن السياق الجيوسياسي العام في المنطقة لا يزال هشًا، وأي خطأ، داخلي أو خارجي، قد يهدد المسار برمّته.
ما سيحدث لاحقاً لايزال غير واضح، لكن حجم الرهانات لا يمكن تجاهله، نجاح هذا التحول لن يُقاس بالتصريحات والاحتفالات، بل بالقدرة على ممارسة شجاعة سياسية حقيقية، وصياغة سياسات شاملة، وتقديم التزامات واضحة بالعدالة والمساواة.
فبينما يُعدّ وقف العنف خطوة أولى بالغة الأهمية، فإن السلام الحقيقي لا يتحقق بمجرد غياب النزاع، بل يتطلب بناء سلام فعّال. فبعكس السلام السلبي أو المؤقت، الذي يقتصر على إنهاء الأعمال العدائية، فإن بناء السلام هو عملية تحوّلية تعالج الأسباب الجذرية للصراع وتُرسي أسس مجتمع عادل وشامل.
ومن خلال إعطاء الأولوية للحقوق والديمقراطية وتمكين المجتمع المدني، يضمن بناء السلام أن تكون لجميع الفئات، وخاصة تلك التي عانت من التهميش تاريخياً، فرصة حقيقية للمشاركة في رسم المستقبل. هذه المقاربة لا تمنع فقط عودة العنف، بل تزرع الثقة، وتُعزز المصالحة، وتُمهّد الطريق للتنمية المستدامة. في نهاية المطاف، يُهيّئ بناء السلام الظروف لنشوء ديمقراطية صامدة، تصبح فيها العدالة والمساواة واقعًا يومياً للجميع، لا مجرد شعارات.
إن استطاعت تركيا أن تفي بهذه المتطلبات، فقد تُنهي فعلياً أحد أقدم النزاعات في المنطقة، وتقدّم نموذجاً يمكن البناء عليه لحل أزمات مشابهة.
أما إن فشلت، فإن تداعيات ذلك ستتجاوز حدودها، وقد تعود خيبة الأمل والفوضى إلى الواجهة من جديد، العالم يترقّب، والخطوات التالية هي التي ستُحدد إن كانت هذه بداية مرحلة جديدة، أم مجرد فرصة أخرى ضاعت وسط الحسابات السياسية.





