صدى الشعب – كتب أمير تاج السر
في زيارتي الأخيرة للقاهرة منذ أيام، عرجت على وسط البلد حيث المقاهي التي كان يجتمع فيها المثقفون، من شتى المعتقدات والأفكار، في ما مضى، يتناقشون في أشياء قد تبدو مهمة، وأحيانا بلا معنى/ ولكن ثمة ثراء كبيرا في تلك اللقاءات، وكثير من المتعة، ولا بد لأي وافد مبتدئ أن يتعلم شيئا، وقد حدث معي ذلك.
كان مقهى ريش مثلا، في تلك الفترة التي عرفته فيها، وكنت طالبا جامعيا، آتيا من طنطا، مرة في الأسبوع، ما يزال واسع الصدر، ويمكن لأي شخص الجلوس فيه/ كان بعض الأصدقاء يوجدون هناك أحيانا، وأذكر أنني تعرفت بالشاعر مهران السيد، وكان أقرب للصمت والتأمل، ولم تتكون بيننا أي صداقة/ أيضا تعرفت بالشاعر العظيم محمد عفيفي مطر، وكان يجلس محاطا بالشعراء، والمعجبين بشعره، وقد أصدر في تلك الأيام من نهاية الثمانينات، ديوانه «أنت واحدها، وهي أعضاؤك اندثرت». كان اسما غريبا لديوان شعر، وكان الشعر بداخله كثير الإدهاش والغموض، ولأني كنت شاعرا في تلك الأيام، ودخلت إلى تلك المنطقة بهذه الصفة، فقد استفدت كثيرا من قصائد الديوان، خاصة تلك القصائد الدائرية التي أبهرتني فعلا.
لكن عفيفي كان يخبئ البوح داخل تلك الرموز، وكان شاعرا كبيرا وواعيا بما يكتبه، وأظن أن تجربته لم تنل حظها من الانتشار، كما حدث لشعراء عرب من جيله، أو حتى الأجيال التي بعده. وأقول دائما إن ضخامة التجارب وغزارة المعرفة داخلها، قد تعوق البحث فيها بجدية، في زمن يجنح فيه الباحثون إلى ما هو أسهل في التناول.
أيضا كان الناقد عبد الرحمن أبو عوف يتواجد في ريش دائما، ويأتي مبدعون من أمثال سعيد الكفراوي، ومحمد سليمان وعبد المنعم رمضان، وكثيرون لم أنسهم لكن من الصعب تعدادهم.
عموما لم يكن ريش هو المكان المفضل دائما، وكان مقهى زهرة البستان الشعبي إلى حد كبير، والذي ما زال شعبيا، هو المكان الأفضل والأرخص والذي يتيح حرية الجلوس في الهواء الطلق، من دون التزام بتوفير سقف أو حوائط أو مقاعد فاخرة، أو شيء غير الشاي والقهوة.
لقد كنت إذن في كل الزيارات تقريبا، أمد رأسي، وقد أجلس قليلا في ريش، وفي النهاية أنزاح إلى زهرة البستان، هناك أستطيع التحدث كمبتدئ. وأن ألقي قصائدي كشاعر يبحث عن النصح، والنضج، وأن أتعلم الكثير من نقاش رزين عن رواية صدرت تلك الأيام، وقرر أحدهم أنها تستحق النقاش. وهذا ما حدث مع رواية «العطر» للألماني باتريك زوسكيند، حيث كان الترويج لها كبيرا جدا ومندفعا، لدرجة الحدة. وحين قرأتها بعد ذلك، لم تخيب ظني، والرواية نفسها أصبحت من أيقونات السرد عالميا بعد ترجمتها للغات عدة.
زهرة البستان
قلت إن زهرة البستان كان مقهى شعبيا، ضاجا، وممتلئا بصخب الشعراء والكتاب، والباحثين عن قهوة غير مكلفة. كانت المقاعد مشتتة في الزقاق الممتد من مقهى ريش، إلى الشارع الذي يفتح عليه المقهى، الطاولات دائما مشغولة، والثرثرة موجودة، وربما تجد من يلعب الدومينو على طاولة أمام باب المقهى مباشرة.
لقد عرضت تجربتي المتواضعة آنذاك على الشاعر محمد سليمان، وقد اخترته بعد أن قرأت ديوانه «القصائد الرمادية» الذي صدر في تلك الفترة، وكان عظيما، تمنيت شخصيا لو كتبته. وقد أكرمني سليمان برعايتي في فترة كتابة الشعر، وعاتبني كثيرا بعد ذلك، أنني تخليت عن الشعر مبكرا من أجل السرد، لكن لم يكن ذلك بإرادتي.
عبد الحكيم قاسم، الذي أعتبره من الكتاب القليلين المؤثرين في الأدب العربي بالرغم من إنتاجه القليل، جاء في أحد الأيام وكان يمشي متكئا على عصا بسبب المرض، وعانقته عناق الأصدقاء بالرغم من أنه لا يعرفني، ثم لتنشأ بيني وبينه، صداقة جميلة، نصحني خلالها بالاتجاه للسرد، حتى رحل.
تذكرت كل ذلك وأنا أجلس على طاولة خالية في زهرة البستان، طاولات كثيرة منتشرة، وامتدت إلى الشارع الرئيسي، ويجلس عليها شباب من الجنسين، لا أعرف منهم أحدا، ولا أعرف إن كانوا مبدعين أم زوار مقهى عاديين بلا أي هم اسمه الإبداع.
كنت أتلفت في ذعر، أتلفت بجدية باحثا عن عبده جبير، وأعرف أنه مات. أبحث عن عمر نجم، وأعرف أنه مات منذ زمن بعيد، وهو في قمة شبابه وتألقه. أبحث عن آخرين كانوا علامات في المكان، ولكن غيبهم الموت أو العزلة التي اختاروها واختارتهم، وأظن أن هذا طبيعي جدا، أن توجد المقاهي القديمة دائما، ولكن يختلف الرواد من زمن لآخر.
ولأن المقاهي لم تعد المكان الأمثل لتبادل الآراء، والترويج للإبداعات وحتى الثرثرة العادية، بعد أن ظهرت الإنترنت، وسطت على حقوقها منذ زمن، فلا يجب التوقع بوجود أديب أو مثقف جالس هناك، إلا لو كان ثمة موعد، وأنا لم أكن على موعد مع أحد. فقط كانت رغبة الماضي في جر الحاضر إليه، ومحاولة غير مجدية لاستعادة الزمن الذي بدأت فيه، والذين بدأت معهم أو لحقت بهم في سكة الكتابة ولكن لم يكونوا موجودين.
لكن أعتقد في النهاية، أن هناك أماكن أخرى يمكن أن يجتمع فيها المبدعون هذه الأيام، مثل الفعاليات الكثيرة المستحدثة هنا وهناك، مثل حفلات التوقيع على الإصدارات الجديدة، مثل (الكافيهات) التي من شدة انتشارها، تزاحم الشوارع في اتساعها.
إنها التغيرات، ونخضع دائما للتغيرات.
*كاتب من السودان