صدى الشعب – كتب محمد علي الزعبي
حين تهدأ أصوات المدافع في غزة، لا يعني ذلك أن النار انطفأت في المنطقة، بل ربما تكون قد انتقلت إلى جبهة أخرى. فالسؤال الذي يفرض نفسه اليوم: ماذا بعد غزة؟ هل تنتقل المواجهة إلى اليمن أم العراق؟
المؤشرات الميدانية والاستخباراتية تؤكد أن إيران بدأت بإعادة تموضع أذرعها العسكرية، وعلى رأسها الحشد الشعبي في العراق، الذي يشهد تجهيزات غير مسبوقة على مستوى التسليح والتعبئة، في إطار ما يبدو أنه استعداد لاحتمالات ما بعد الحرب في غزة. فطهران تدرك أن أي تسوية نهائية للصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي قد تُضعف أوراقها في الإقليم، ولذلك تسعى لتثبيت حضورها عبر وكلائها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
في اليمن، المشهد أكثر وضوحًا. فالحوثيون لم يعودوا مجرد جماعة مسلحة، بل تحولوا إلى ذراع استراتيجية لإيران في خاصرة البحر الأحمر. استهداف السفن في الممرات البحرية لم يعد عملًا محدودًا، بل رسالة صريحة بأن صنعاء أصبحت جزءًا من منظومة الردع الإقليمي التي تُديرها طهران. فكل تحرك حوثي في البحر الأحمر يحمل توقيعًا إيرانيًا، وكل صاروخ ينطلق من الساحل اليمني هو جزء من حسابات طهران في مواجهة الغرب وإسرائيل.
أما العراق، فهو الساحة الأخطر والأكثر تعقيدًا، إذ تمتلك إيران هناك نفوذًا متجذرًا في بنية الدولة والميليشيا معًا. الحشد الشعبي بات جيشًا موازيًا، يملك سلاحًا وإعلامًا وولاءً عابرًا للحدود. وما يجري اليوم من تحشيد وتعبئة داخل صفوفه يشي بأن الساحة العراقية قد تُستخدم كورقة ضغط جديدة تحت شعار “نصرة فلسطين”، فيما الحقيقة أن الهدف الأعمق هو تثبيت النفوذ الإيراني ومنع عودة التوازن الأمريكي داخل بغداد.
القراءة الاستراتيجية تُظهر أن إيران تبني معادلة ردع متحركة: فإذا خمدت جبهة غزة، اشتعلت جبهة اليمن، وإذا هدأت اليمن، يُفتح الملف العراقي أو اللبناني. هذه المرونة في إشعال الجبهات تُكسب طهران قدرة عالية على المناورة، وتجعل خصومها في حالة استنزاف دائم.
غير أن هذا التكتيك الخطير يحمل بذور الانفجار الشامل. فالولايات المتحدة كثّفت وجودها البحري والجوي في المنطقة، وإسرائيل تتبنى عقيدة “الضربة الاستباقية”، وأي شرارة خاطئة قد تُفجّر مواجهة إقليمية مفتوحة، لا تُبقي ولا تذر.
ما بعد غزة ليس سلامًا ولا تهدئة، بل مرحلة جديدة من حرب الأدوار، تقودها إيران وإسرائيل بعقل بارد وصبر استراتيجي، وتعيشها المنطقة على إيقاع توتر متصاعد. إننا أمام مشهد يُكتب بالنار، تُوزّع أدواره طهران، وتقرأه العواصم الكبرى بقلق بالغ، بينما تبقى فلسطين — كالعادة — العنوان والذريعة والوجع الأبدي .






