كثيرة تلك القراءات والتحليلات مؤخرا، في مختلف وسائل الإعلام العربية والدولية، حول السياسة الخارجية المتوقعة للرئيس الأميركي الجديد، جو بايدن، تجاه الشرق الأوسط، وتحديدا المنطقة العربية، بين متفائل بتغير إيجابي وبين متحفظ على ذلك من باب واقعية البعد التاريخي للعلاقات العربية مع الولايات المتحدة، المنحازة لإسرائيل، ديمقراطية كانت الإدارة أم جمهورية. إلا أن الفهم الحقيقي لكل ذلك لا بد أن يأخذ في الحسبان عددا من العوامل، أبرزها محددات فلسفة بايدن وفريقه لما يجب أن تكون عليه السياسة الأميركية، ودور الحلفاء التقليديين للولايات المتحدة، وتحديدا بريطانيا ودول الاتحاد الأوروبي، في ذلك، إضافة إلى درجة تفاعل العواصم العربية، على اختلاف مصالحها، مع قرارات الإدارة الأميركية الجديدة في المنطقة، مع الأخذ بعين الاعتبار حسابات القوى الإقليمية، الإيرانية والتركية على وجه الخصوص.
فإدارة البيت الأبيض الجديدة ستقع فلسفيا بين التأثر بسياسة الرئيس الأميركي الأسبق، باراك أوباما، الذي عمل بايدن نائبا له لثماني سنوات، والقائمة على الحوار في الغالب سبيلا للعلاقات الدولية وسياسة الاحتواء للخلافات والصراعات في المنطقة والعالم، وبين معارضة بايدن وطاقمه لمعظم ما قام به الرئيس الجمهوري، دونالد ترامب، والذي كان لمزاجيته وسياساته الإملائية الأثر الأكبر في كل قراراته. لكن من المتوقع، في المجمل، أن تنتهج إدارة بايدن سياسة توازن فيها بين النهجين، الأوبامي والترامبي، في مواقفهما وإنجازاتهما في المنطقة العربية، حماية للمصالح الأميركية في نهاية المطاف، مع استمرار الدعم الاستثنائي لإسرائيل، إضافة للاحتفاظ بمسارها الديمقراطي وعدم التزحزح عنه في قضايا محددة، خصوصا ما يتعلق بحقوق الإنسان.
وكل ما تقدم سيرتبط بدرجة كبيرة بالتحالفات الدولية التي سيسعى الديمقراطي المخضرم، صاحب خبرة الستة والأربعين عاما من العمل السياسي، لتعزيزها، بعيدا عن عقلية المقاربة الأحادية التي انتهجها ترامب، خصوصا مع حلفاء الولايات المتحدة، البريطانيين والأوروبيين تحديدا، وذلك بعد فتور شاب العلاقات مع حلفاء الغرب إبان حقبة الإدارة الأميركية السابقة، مع التنويه بالصورة الأكبر لهذه التحالفات، والمتمثلة في التصدي للمحاولات الصينية لإيجاد نفوذ اقتصادي وتكنولوجي لها في الساحة العربية، والطموحات الروسية للعب دور أكبر سياسيا وحتى عسكريا في مناطق محددة من العالم العربي. هذا مع الإشارة إلى أن الإصرار الصيني والروسي لترسيخ نفوذهما لن يتوقف عند منطقة الشرق الأوسط، بل سيتمدد فعلا نحو القارة الإفريقية. وتلك قصة أخرى.
وهذا يقودنا إلى السؤال المعكوس، والذي يتمحور حول ما ستكون عليه مواقف الدول العربية من الإدارة الأميركية القادمة، والتي على دبلوماسيتها قراءة الواقع الأميركي الجديد، والتعامل معه باستباقية تطرح الحلول من وجهة نظرها لمشاكل المنطقة على الطاولة الأميركية والدولية، بدلا من سياسة الانتظار وتلقي القرارات بين تأييد وشجب. وهنا فإن الملفات ستتراوح بداية من عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية، والتي على الدول العربية الاستفادة من التعاطف الأميركي الديمقراطي، والتفهم البريطاني الأوروبي، وحتى الدولي بمجمله، لاحيائها استنادا إلى حل الدولتين وليس صفقة القرن المجحفة، وسيلعب قطار التطبيع عربيا مع إسرائيل، والذي أطلقه ترامب، دورا هاما في ذلك. هذا إضافة إلى إعادة وضع الملف النووي الإيراني في حضن المجتمع الدولي بشروط أكثر صرامة، وصولا لاحتواء الخطر الإيراني، ما يضع طهران في مواجهة عواصم صنع القرار العالمي برمته، وليس الأميركي فقط، إذا لم تلتزم بالمطالب الدولية، وهذا بحد ذاته سيضمن أمن دول الخليج العربي، انطلاقا من سياسة الردع الدولية لإيران. كما يشمل الأمر صياغة تفاهمات عربية، من دون رفع سقف التوقعات، وصولا إلى مواقف شبه موحدة من تطورات الأوضاع في سوريا واليمن وليبيا لطرحها على الإدارة الأميركية.
وكل ذلك يستدعي بالضرورة قراءة ما يجول في أذهان قيادتي طهران وأنقرة أيديولوجيا، واللتان لن يهدا بالهما إلا بضمان حماية مصالحهما في المنطقة العربية. وستعمل كل منهما جاهدة على التقارب، بطرق مباشرة أو غير مباشرة، مع الإدارة الأميركية، ما يتطلب عربيا أيضا الاستباقية وشرح المخاوف والسيناريوهات لتأخذها إدارة البيت الأبيض الجديدة في حساباتها عند التعامل مع إيران وتركيا. ويمكن هنا الاستفادة من مواقف بعض عواصم الاتحاد الأوروبي الرئيسية، والتي يرى المحللون فيها تماشيا مع المواقف العربية فيما يتعلق بالنظرة إلى سياسات إيران وتركيا تجاه المنطقة العربية، ومنها فرنسا مثلا.
المنشود هو أن تدرك الدول العربية، في المحصلة، خارطة التحالفات الدولية في عهد بايدن وإسقاطات ذلك إقليميا، ومن ثم التحرك بوحدة مواقف أكبر إذا ما أرادت فعلا التأثير إيجابا حماية لمصالحها. أما إذا ما بقيت الأمور تراوح مكانها، فالتاريخ سيمضي، ونحن نشاهد دون التأثير حقيقة في المشهد. فهل من توافق عربي، حقيقي لا شكلي، يلملم شتات الأمة بمواقف واضحة يراها الأصدقاء والخصوم على حد سواء؟ فالبقاء، كما يقول تشارلز داروين، مع فارق التشبيه، “ليس للأقوى ولا للأذكى، بل للأكثر استجابة للتغيير”.
بايدن، صاحب الثمانية والسبعين عاما، هو أكبر الرؤساء عمرا في التاريخ الأميركي، ولعله، بحكمته ودبلوماسيته وتوازنه، الأقدر على إحداث فرق إيجابي في السياسة الأميركية عربيا، خصوصا وأن الرئيس الأميركي الجديد، وعلى الصعيد الاتصالي، من الشخصيات السياسية القادرة على التكيف مع الطروحات المنطقية والأخذ بها. وعليه، لنرى كيف سنتدبر أمرنا عربيا.