حرب غزة تستنزف اقتصاد إسرائيل (الجزء الثاني)
الدكتور حيدر المجالي خبير اقتصاد واستثمار
استعرضنا في الجزء الأول التكلفة الأخلاقية والسياسية للحرب في غزة على إسرائيل، وكيف شكلت صدمة كبيرة لها في شتى المجالات، ولاحظنا توقعات حاكم بنك إسرائيل المركزي بارتفاع تكاليف الحرب والخسائر إلى أكثر من 58 مليار دولار مما سيشكل ضغطا هائلا على اقتصاد الدولة ومعدلات النمو فيها في الفترات القادمة.
إن أكبر القطاعات الناشطة اقتصاديا في إسرائيل هو قطاع الابتكار والتكنولوجيا ويعد هذا القطاع المحرك الرئيسي للاقتصاد الإسرائيلي في الثلاثة عقود الأخيرة إلا أن هذا القطاع سيكون أكثر المتضررين من الأحداث وسيعاني من ويلات الحرب لفترات طويلة نتيجة توقف الاستثمارات في شركات البحث والتطوير وإغلاق العديد من مؤسسات التكنولوجيا أعمالها وقيامها بمغادرة إسرائيل والعودة إلى بلدانها بحثا عن الأمن والأمان مما سيؤثر على المردودات المالية لهذه الصناعة والمقدرة بعشرات المليارات من الدولارات سنويا وكذلك ضياع فرص العمل التي كانت متوفرة والمقدرة بعشرات الآلاف من فرص العمل المرموقة ويقود هذا القطاع النمو الاقتصادي في إسرائيل بشكل أساسي حيث بلغ إجمالي صادرات دولة الكيان في عام 2022 أكثر من 165 مليار دولار منها حوالي 85 مليار دولار من قطاع التكنولوجيا المتقدمة كالرقائق الإلكترونية والبرمجيات مما يعني فقدان مساهمة أكثر من 51 % من إيرادات الصادرات الإسرائيلية في الدخل العام بالإضافة إلى تدني الدخل المتوقع منها لسنوات قادمة وإثر ذلك على معدلات النمو العام.
أما فيما يتعلق بأنشطة الاستثمارات والأسواق المالية فقد تأثرت بالأحداث بشكل لافت وزاد التوتر السياسي والأمني من حالة عدم اليقين الاقتصادي في الأسواق المالية ورفع نسب المخاطرة المالية في إسرائيل مما أدى إلى تراجع الاستثمارات ومغادرة بعضها الأمر الذي أحدث تقلبات كبيرة في سوق الأوراق المالية أثرت سلبا على الأداء الاقتصادي فخسرت بورصة تل أبيب أكثر من 16 % من قيمتها السوقية بخسارة تجاوزت الـ 62 مليار دولار لغاية الآن كما تعرضت أسهم البنوك والمؤسسات المالية لخسائر كبيرة وانخفضت قيمتها بنسب وصلت إلى 31 % وفقدت الاستثمارات الإسرائيلية في المحافظ المالية الأميركية أكثر من 14 % من قيمتها فيما تكبدت الأسهم الدولية المرتبطة بإسرائيل والمقيمة بأصول تبلغ 43 مليار دولار الى خسائر زادت على 14 % من قيمتها في الأسواق العالمية والبورصات الأجنبية وصناديق الاستثمار الأميركية والاوروبية الأمر الذي دفع حاملي هذه السندات للمطالبة باسترداد قيمتها وبيعها وفقا لبيانات صادرة عن بلومبيرغ. أما الشركات الإسرائيلية المدرجة في البورصات الأميركية والتي يتجاوز عددها الـ 100 شركة فقد خسرت أكثر من 15 % من قيمتها في تداولاتها اليومية منذ بدء العمليات العسكرية وفقا لبيانات مكتب الإحصاء الإسرائيلي.
وفيما يخص القوى العاملة فقد ترك استدعاء الاحتياط العام للجيش فجوة كبيرة في الاقتصاد حيث فقد سوق العمل أكثر من 32 % من قواه العاملة المدربة والمؤهلة وأصبح هناك أكثر من 760 ألف عامل غير قادرين على العمل نتيجة الإصابات التي فاقت 12.500 إصابة مما سيحرم قطاعات مهمة في الاقتصاد من الاستفادة منهم بالإضافة إلى إلغاء تصاريح أكثر من 200 ألف من العمالة الفلسطينية، مما أدى إلى توقف المصانع والمشاريع الإنشائية والتطويرية التي كانت هذه الفئة تشكل حجر الأساس للتقدم فيها على الجانب الآخر يعتبر استدعاء جنود الاحتياط للتعبئة العامة خيارا مؤلما للاقتصاد الإسرائيلي لأن أكثر من 200 ألف عنصر من القوى العاملة في الاقتصاد من فنيين وخبراء في التكنولوجيا وغيرها تم سحبهم من السوق للانضمام للأعمال العسكرية بالإضافة الى 160 ألفا من جنود الاحتياط بمجموع كلي بلغ 360 ألف عنصر، الأمر الذي أدى إلى تعثر النشاط الاقتصادي وتقليل عرض العمالة في السوق وتكبد الخزينة رواتب اضافية باهظة مما تسبب فيما يطلق عليه الركود التضخمي وهو ارتفاع معدل التضخم مع انخفاض معدل النمو الاقتصادي.
غيرت نظرتها إلى توقعات سلبية نتيجة تزايد العجز المالي بسبب الإنفاق العسكري الباهظ وانخفاض إجمالي الناتج المحلي وانكماش الاقتصاد كنتيجة مباشرة لتأثر الإنتاج وانخفاض التجارة وهروب الاستثمارات، كذلك الأمر خفضت وكالة ستاندر آند بورز النظرة المستقبلية للجدارة الائتمانية لإسرائيل إلى سلبية لمخاوف نمو الديون الحكومية وعجز الحكومة عن السيطرة على الإنفاق العسكري وتوقعت كذلك انكماشا للاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 8 % في الربع الأخير من 2023، في حين خفضت وكالة فيتش تصنيف إسرائيل الائتماني إلى سلبي واعتبرت الاقتصاد تحت المراقبة السلبية بسبب تنامي خطر اتساع النزاع ليشمل جهات إقليمية أخرى، وأشارت الوكالة إلى أنها تتوقع بقاء الاقتصاد الإسرائيلي أسير المعاناة لفترة طويلة قد تمتد لسنوات.
إن ما حدث في 7 أكتوبر شكل صدمة أصابت عصب الاقتصاد الإسرائيلي مما قد يدفع دولة الاحتلال لإيقاف الحرب لدواع اقتصادية بحتة وفقا لما أشار إليه تقرير مثير لبنك إسرائيل المركزي الذي حذر من أن استمرار الحرب لثلاثة أشهر إضافية سيعني إفلاس البنك وتلاشي الاحتياطيات الأجنبية وانهيار الاقتصاد. إن أحداث 7 أكتوبر شكلت هاجسا قويا لإسرائيل وأسهمت في زعزعة مقولة الجيش الذي لا يقهر، وأظهرت بالحقائق هشاشة مجتمعها وقيمها الإنسانية وبساطة اقتصادها وضعفه سياسيا، نأمل أن تكون هذه الأحداث دافعا حقيقيا لإعادة تموضع القضية الفلسطينية وتمركزها على مائدة المفاوضات سعيا لإيجاد حل سياسي وليس عسكريا للنزاع.