على مدى ايام، قام عشرات النواب بإلقاء خطابات ثقة بالحكومة. تنوعت الخطابات في فحواها وتوجهاتها السياسية مثلت فسيفساء سياسيا لن يكون التعامل معه من قبل الحكومة والمراقبين بالأمر اليسير. يبرز اتجاهان تفسيريان يؤطران خطابات الثقة، احدهما يجد في الثقة وخطاباتها مناسبة سياسية مهمة لمعرفة توجهات النواب العاكسة لقواعدهم، ابرزت التباين في قوة وعمق المشرعين ومشاربهم السياسية وخلفياتهم الاجتماعية والخبراتية، فيما يرى فريق آخر ان الخطابات شكلت مناسبة مكررة فقدت بريقها لا تقدم او تؤخر معروفة النتائج ولذا فهي ذات أثر معدوم.
التباين بتقييم الثقة وخطاباتها متوقع ومفهوم، سببه الاساسي غياب التأطير السياسي الكتلوي لمجلس النواب الذي تغلب عليه صفة الفردية، لذلك تحتار الأعين بتأطيره وتصنيفه. لا يوجد في برلماننا زعيم للمعارضة، ولا قائد لكتلة ظل، ولا مجموعة من الاحزاب والكتل ذات التوجهات المؤسسية والبرامجية المعروفة، وسبب ذلك غياب الاحزاب عن الانتخابات والتمثيل تحت القبة، لكن وبالرغم من ذلك، تبقى خطابات الثقة الاداة المتاحة بين ايدينا لمعرفة توجهات الناس السياسية والاجتماعية والاقتصادية المختلفة، من خلال طروحات ممثليهم، ويبقى إعطاء الثقة او حجبها موقفا سياسيا حتى لو لم يكن ضمن طرح برامجي كما يحدث في برلمانات فيها اغلبية واقلية حزبية واضحة التباين والفروق. النائب المانح للثقة وكأنه يقول انه يعتقد بقدرة الحكومة على العمل، والحاجب هو عكس ذلك، فتبقى الثقة حكم على القدرة والتقييم الفردي والجمعي لقدرات الحكومة المتوقعة.
الغائب عن ذهن نسبة من المراقبين، هو امكانية اعادة طرح الثقة بالحكومة في اي وقت بالمستقبل، ما يشكل تحديا كبيرا ومستنزفا لعمل الحكومة. في اي وقت يستطيع اي نائب وليس فقط زعيم الاقلية بالبرلمان ان يطرح الثقة بالحكومة لأي سبب مرتبط بسياساتها وقراراتها، وهذا يجعل الحكومة تحت رقابة مستمرة ومنهكة للقيام بالأعمال بما يجنبها طرح الثقة بها تحت القبة. هذا امر مرهق لأي حكومة، وهو سلاح فعال بيد اي نائب ليبقيها تحت سيف الرقابة المستمر. لا يجوز وليس من الحكمة استخدام حق طرح الثقة دون وجود مسوغات سياسية موضوعية تستطيع حشد اصوات النواب، لكن طرح الثقة عن طريق السؤال والاستجواب البرلماني يبقى اداة فعالة مهمة اذا ما احسن استخدامها. ذاك يعني ان الحكومة وان حصلت على الثقة فهي ليست في مأمن ولا انها عبرت هذا الحاجز السياسي لغير رجعة، بل يعني انها واعمالها تبقى دوما تحت المنظار الذي يقتنص اخطاءها ويراقب قراراتها، وهي بذلك تكون حريصة على تقديم اداء يجنبها استخدام ادوات الرقابة ضدها.
خطابات الثقة وان كانت ليست كتلك الموجودة في برلمانات فيها اغلبية واقلية برامجية، لكنها ليست عديمة النفع فقدت تأثيرها، فهي ما تزال مناسبة سياسية لتقييم التفاعل بين الحكومة والبرلمان لا تنتهي بمجرد منح الثقة، وهي وسيلة فعالة لمعرفة توجهات النواب التي تعكس قواعدهم، وتبقى الاداة المتاحة لمعرفة طريقة استخدام الادوات الرقابية البرلمانية في قادم الايام.