صدى الشعب – طاهر المصري
أكتب هذه الكلمات وأنا اتابع انتحار حضارة العالم في غزة، الذي كنا نظن أنه (متحضر): انتحار القانون الدولي، وميثاق حقوق الانسان ،الذي أقره المنتصرون بعد الحرب العالمية الثانية، ومؤسسات المجتمع المدني.
الأحداث والوقائع تزداد تعقيداً، في منطقتنا، ومعها يتواصل القتل والإبادة البشرية وتخريب العمران، وكل إمكانيات العيش البشري، في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان؛ كما ترتفع وتيرة امتداد هذه الحرب الهمجية إلى مساحات أخرى من منطقتنا، ومن دون أن يكون هناك أية بارقة أمل في وقفها، أو إنهاء المقتلة المتواصلة منذ أكثر من عام طويل مرشّح للامتداد!
لا تتوقف حدود تأثير هذه الحرب المدمرة عند ساحتها الملتهبة والمشتعلة فقط، بل تمتد مفاعيلها المتوقعة إلى كل جوارها القريب والبعيد، وأول هذا الجوار القريب هو بلادنا الأردنية.
لم أتوقف يوما، خلال العقود الماضية، عن التأكيد بأن القضية الفلسطينية هي قضية داخلية أردنية، بمفاعيلها ومخرجاتها ومصائرها، أيا كانت، وهو ما يجعل التطورات الخطيرة التي تشهدها هذه القضية اليوم تدخل في صلب المصالح الوطنية الأردنية ومستقبلها، بما يعني اختلاف مكانة ومصلحة الوطن الأردني الجيواستراتيجية، فيما يخص القضية الفلسطينية، عن غيرها من بقية الأقطار العربية الأخرى، وبالتالي اختلاف طبيعة ونوعية المخاطر التي تهددنا عن غيرنا؛ ولا أدل على ذلك أكثر من التصريحات الفجة والعدوانية لغلاة الصهاينة الذين يستلمون الحكم الآن في دولة العدوان الإسرائيلي، تلك التصريحات التي تتواصل صباح مساء، وأحيانا من دون مناسبة!
مؤخراً، ومع تزايد حالات الانفجار والقهر الفردي الأردني، عَبرَ الحدود مع فلسطين المحتلة، أخذت الحكومة الإسرائيلية قرارا بتشكيل فرقة عسكرية، لنشرها على طول الحدود الأردنية مع فلسطين المحتلة، بما فيها غور الأردن الفلسطيني، وجنوب البحر الميت، وهو ما يعني تنفيذاً عمليا للخطة المبيّتة منذ سنوات، بإعادة احتلال أراضي منطقة الأغوار الفلسطينية؛ وهو ما يعني أيضا الضرب عرض الحائط بالاتفاقيات الثنائية الموقعة، التي تضمنتها اتفاقية وادي عربة عام 1994.
أصحاب القرار يدركون كل تلك المتغيرات والمخاطر. غير أن ما هو غير واضح، ويشكل مصدر قلق للمواطن الاردني، هو سؤال: ماذا علينا ان نفعل؟ تحسبا لتلك المخاطر، التي أصبحت تطرق أبوابنا بعنف شديد. وفي الوقت ذاته، تتصاعد أصوات داخلية بالدعوة إلى تجنيب الأردن وتحييده عن كل ما يحدث في الإقليم! متناسين ان النجاة الفردية غير ممكنة في زمن احتراق الإقليم وانفجاره! ولعل ما هو مؤسف هي محاولات شيطنة ردود الفعل الشعبية، أو المعارضة السياسية، التي تدعو إلى الاستعداد وتحصين الوطن الأردني من مخاطر الأطماع الصهيونية، التي يسمعها ويراها المواطن الأردني من قادة العدو كلّ يوم. فماذا عسى هذا المواطن، المنتمي لوطنه وأمته، أن يفعل سوى الاعتراض على تلك التصريحات، والدعوة للتصدي الفعلي لتلك المخاطر؟
من جانب آخر، تتزايد مستويات التواطؤ والشراكة، الأمريكية والغربية، مع المطامع الصهيونية المتزايدة، سواء بالصمت أو بالمواقف الباهتة، حول ما تقوم به حكومة العدوان الهمجية، وآخرها حظر عمل وكالة الأونروا الدولية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وإلغاء الاتفاقية الموقعة مع الأمم المتحدة بشأنها منذ العام 1967 وهذا خطير خطير! بل ويدخل في صلب تغيير الواقع الاجتماعي العملي العنيف لدوائر الشتات الفلسطيني، بما يتضمنه عمل الأونروا من رعاية تعليمية وصحية واجتماعية، هذا فضلاً عن تأثير ذلك على مكانة ومصير ملايين اللاجئين الفلسطينيين في دوائر شتاتهم المختلفة، بما في ذلك بلادنا الأردنية، التي ستتأثر بلا شك، وعلى نحو مباشر، بهذا التغيير الاستراتيجي؛ وهو برأيي ما يفرض علينا التعامل مع تلك الدول انطلاقا من مصالحنا الراهنة والاستراتيجية، وخصوصا مع الدول الغربية التي تدعي حرصها على المصالح الأردنية، والتي وصلنا مع بعضها إلى اتفاقيات دفاع استراتيجي. إذ لا يعقل أن يكون هذا الحليف حليفا لنا، وحليفا استراتيجيا، في الوقت نفسه، للطرف الذي يهدد مصيرنا ووجودنا ومصالحنا الاستراتيجية! وإنني على قناعة بأن الأردن يستطيع ذلك، وله في في هذا السياق تجارب سابقة طويلة منذ العام .1948
هذه لحظة بالغة الخطورة على الإقليم كله، وأوهام النجاة القُطرية، من مفاعيل ومخاطر ما يحدث بالصمت أو بالتسويف عن مواجهة تلك المخاطر بجدية، لن تنجي أحداً. فهذا إقليم وصلت درجة سيولة تغيير خرائطه الاستراتيجية إلى حدودها القصوى، وفيها لا يقيم الأقوياء اعتباراً لغير مصالحهم وأطماعهم المباشرة، وهو ما نراه اليوم من حروب إبادة همجية وحشية، لم تقم اعتبارا لا لقوانين أو قيم أو معاهدات دولية أو إنسانية؛
إنني أدعو إلى مراجعة شاملة في سياساتنا الداخلية والخارجية، وإلى ممارسات فعلية لتمتين جبهتنا الداخلية، ( وأن تكون تلك الممارسات فعلية لتمتين جبهتنا الداخلية وأولها إدخال كل القوى الاجتماعية والسياسية الحريصة على مصالح الوطن حتى لو اختلفنا معها على تفاصيل وسياسات جزئي، فهؤلاء أبناء الوطن، وحريصون على مصالحه؛ وكذلك الكفّ عن شيطنة المعارضين لسياسات الحكومات، وصناعة هوامش وقواسم مشتركة جديدة، أساسها الدفاع عن الوطن وحماية مصالحه، إزاء ما يتهدده من مخاطر وجودية، وعماد كل ذلك هو قواتنا المسلحة وجيشنا العربي وقيادتنا، التي لا يختلف فيها أو عليها أحد من الأردنيين. كما أدعو إلى مواجهة ومراجعات صريحة وحقيقية مع الحلفاء، قبل غيرهم، برؤيتنا للمخاطر التي تتهددنا، كما نراها نحن، وعدم الركون إلى التطمينات الفارغة، التي تملأ بها السياسة الخارجية الأمريكية الفضاء السياسي والإعلامي لمراحل المذبحة والمحرقة البشرية المتواصلة في بلادنا منذ أكثر من عام!