صدى الشعب – كتب العميد محمد الحسيني
لم يكن يوم 15 مارس من العام 44 قبل الميلاد، يوماً عادياً في تاريخ الإنسانية، ليس لأنّه اليوم الذي أغتيل فيه “يوليوس قيصر” إمبراطور روما، حين خانه كل من وثق بهم، فغدروا به وانهالوا عليه بالطعنات، بمن فيهم صديق عمره “ماركوس جونيوس بروتوس”…بل لأنّ في هذه اللحظة الخاطفة بين طعنة “بروتس” الأخيرة، وكلمات قيصر له: حتى أنت يا “بروتس”؟…كانت كافية ليس لانزلاق الإمبراطورية الرومانية إلى الحرب الأهلية فحسب، بل لانهيار كل قيم الصداقة وسقوط كل روابط الأخوة، ليبرز بينهما وجه “بروتس” كأبشع وجه من وجوه الخيانة في التاريخ القديم…
وما هي سوى قرون مضت ليطل وجه “بروتوس” من جديد، يوم 10 يونيو من العام 1916 حين أطلق الشريف الحسين بن علي الرصاصة الأولى من شرفة قصره في “مكة المكرمة” إيذاناً بقيام ما اتفق على تسميته “الثورة العربية الكبرى” التي دعمت البريطانيين في حربهم الاستعمارية للدول العربية ضد السلطنة العثمانية، ولأنّ متلازمة “بروتس” عابرة للزمان، كانت تلك أولى الرصاصات التي أطلقت على القدس … ليخلفه إبنه فيصل فيُطلق على فلسطين الرصاصة الثانية يوم 3 يناير 1919، حين وقعّ على ما عُرف بالاتفاقية الفضيحة “اتفاقية فيصل – وايزمان”، معترفاً فيها ب”وعد بلفور”، وما بين “وعد فيصل” والهجرة الصهيونية إلى فلسطين، أذعّن الملوك والحكام العرب للأمر الواقع فما استفاقوا… إلاّ وجغرافيا الوصل بين القارتين وحلم الوحدة من المحيط إلى الخليج قد تبدد، فاستُعمرت الأرض وشُرّد الشعب لصالح المُبعدين من أوروبا…
وعلى الرغم من مآسي الماضي ونكباته، فإنّ ما يحدث اليوم هو أخطر بكثير مما حدث بالأمس، ليس لأنّ ما يحصل في غزة من تخاذل عربي هو تكرار لمتلازمة “بروتوس” فحسب، بل لأنّ ما بعد غزة هو أكثر سوءًا، يتجاوز نكبة فلسطين، ويتعدّى عقد الصلح أو فِعل التطبيع مع الاحتلال، هو استكمال للمخطط الذي وضع مدماكه الأساس “هنري كسينجر” في سبعنيات القرن الماضي، ليتجدد في عهد “بوش الأبن” تحت مسمى مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد، الذي يتلخص باستراتيجية أميركية – صهيونية ترمي إلى جعل الكيان المحتل مركزاً للقيادة والسيطرة على المنطقة بأكملها من خلال اضعاف الدول العربية، عبر إظهار بعضها كدول عاجزة لوحدها عن تأمين استقرارها الأمني أو الاقتصادي، وإلى محاولة تفتيت البعض الآخر على أسس عرقية أو دينية مذهبية.
وللسير بهذا المشروع الكبير استغلوا حرمان الشعوب العربية لعناوين الحرية والفساد والبطالة، فكان “ربيعهم العربي” حيث استطاعوا تقسيم ليبيا والسودان ونهب ثرواتهما، لكنهم فشلوا بتجزئة كل من تونس ومصر إلاّ أنهم وجدوا سبيلهم إلى أم الدنيا في إنهاكها بالمديونيات الخارجية، التي أثقلت شعبها حتى بلغت في الربع الأخير من العام 2023 ما يقارب 168 مليار دولار. وبعد تجاوزهم للأردن مقابل تعهدات بحماية أمن الكيان، توقفوا عند المملكة العربية السعودية حين أسرعت إلى تدارك الأمر وتنفيذ سلسلة من الإصلاحات المطلوبة من انفتاح اقتصادي وتربوي واجتماعي يواكبه خفض لمنسوب الدين الإسلامي في الحياة العامة …وابتدعوا في شرق العراق منظمات ارهابية أبرزها تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) “فزّاعة” للدولة العراقية يحركونها ساعة يشاءون، عدا عن سرقة النفط العراقي.
وبما أنّ لا نجاح لهذا المشروع إلا باستكمال سياسات الضغط على الدول الداعمة للقضية الفلسطينية والرافضة للتطبيع مع الاحتلال الصهيوني، وتحت عنوان: “تجفيف منابع الإرهاب” استكملوا مشروعهم، ففشلوا في الجزائر وايران ولبنان ( حرب تموز 2006) ونجحوا جزئياً في سوريا، فجفّفوا آبار نفطها، وأنتجوا خارطة غير رسمية بعد أن سيطرت كل من داعش، والمعارضة السورية، وقوات سورية الديموقراطية، على أجزاء منفصلة من سوريا، اضافة إلى مساعي العدو في الجولان المحتل لتنفيذ خطته في اقامة حزام امني ضمن الأراضي السورية على امتداد الجولان المحتل على غرار ما كان سائداً جنوب الليطاني في لبنان خلال فترة الاحتلال الصهيوني.
وما الذي جرى ويجري حالياً في غزة إلا محاولة لاستنهاض مشروع الشرق الأوسط الكبير، فعلى الرغم من مضي سبعة شهور من حرب الإبادة على غزة فإن مشروعهم في تعثر مستمر، بسبب ما أفرزته هذه الحرب من تداعيات أدت إلى ارتفاع منسوب التهديد الوجودي للكيان الغاصب وبالتالي للمصالح الامريكية في الشرق الأوسط، من خلال:
الصمود التاريخي لحركة حماس وباقي فصائل المقاومة، الذي أربك حكومة العدو داخلياً، وأوقعها في مأزق دولي مع حليفها في البيت الأبيض الذي يسارع إلى إنهاء الصراع بشتى الوسائل قبل الدخول في حمى الانتخابات الأمريكية.
يبدي “نتنياهو” مرونة مزيفة خلال التفاوض، فهو “خائف ومتوتر”من أوامر اعتقال دولية بسبب مجازره في قطاع غزة، وهذا ما قد يدفعه إلى توسيع الحرب…
تثبيت استراتيجية وحدة الساحات بين غزة، لبنان، اليمن، العراق، سوريا وايران، رغم المحاولات الفاشلة للفصل بينهم.
إخفاق استخباراتي للعدو في تقدير الموقف الإيراني، في أنّها مردوعة ولن تجرؤ بالردّ على قصفهم للقنصلية في دمشق، ما فرض على الكيان الغاصب قواعد اشتباك جديدة.
فاقت الهجمات الصاروخيّة قدرات العدو ما يثبت فشل منظومة الردّع لديه، حيث احتاج الى تدخل دولي وإقليمي لحمايته، في وقت اعتبرت هذه الهجمات أكبر تهديد للكيان منذ نشأته.
على الرغم من التصريحات التصعيدية للمسؤولين الصهاينة، جاء الردّ الصهيوني على إيران في أصفهان هزيلاً من حيث حجم الردّ، وضعيفاً من حيث الهدف الاستراتيجي المنشود، فالعدو لغاية اليوم لم يُعلن رسميا عنه، ما يُظهر هشاشة هذا الكيان والتخبط الداخلي الذي يعانيه.
كل هذه المعطيات باتت تضغط بثقلها على الخيارات الأمريكية- الصهيونية، فإمّا الذهاب إلى خفض التصعيد لإنتاج حل سلمي في غزة على غرار القرار الأممي 1701 في جنوب لبنان، وإمّا العض على الجرح الايراني وسيف “محكمة لاهاي” والسير قدماً بخطة الهجوم على “رفح” لإعلان انتصار مزيف والتوقف عند هذا الحد، وإمّا الاندفاع إلى ما بعد رفح إلى حماقات أخرى، إلى مزيد من الحروب إنّ باتجاه الضفة الغربية أو جنوب لبنان، بهدف تغيير الخارطة الجيوسياسية للمنطقة استكمالاً للمشروع الكبير، لكن دونه عقبات:
إعادة إحتلاله للضفة الغربية وتهجير الفلسطينيين منها لصالح الاستيطان فيها، سيؤدي إلى انقلاب في المواقف الدول العربية المطبعة مع الاحتلال والداعمة في الأساس للسلطة الفلسطينية في الضفة، ضد إجراءات العدو هذه.
حاجته الملحّة لتأسيس تحالف دفاعي إقليمي، تكون فيه القيادة والسيطرة للعدو، خشية من تدخل إيراني مباشر، ودونه صعوبات في مدى مصلحة هذه الدول في زج بلدانها في صراع مجهول المصير.
التكاليف الباهظة للحرب الشاملة على لبنان، التي يُهدد بها العدو، ودونها محاذير دولية خشية تتمددها الى حرب اقليمية من جراء حتمية التدخل الإيراني والسوري، يؤدي إلى فتح الحدود الشمالية لفلسطين المحتلة على مصراعيها للمقاومين…
تصدي كل من الرئيس”بشار الاسد” و”حزب الله” ومن معهم من أحزاب وقوى وطنية لكل المحاولات الهادفة إلى إنشاء أنظمة فيدرالية على أسس مذهبية، أو كونفيدرالية في كل من سوريا المجزأة أساساً ولبنان ذات النظام الطائفي والأرض الخصبة، تغذيها النزعة الانفصالية لبعض المعارضين السوريين والقيادات اللبنانية ومواقفهم غير المعادية للصهيونية، ما يُؤدي إلى فوضى داخلية فيما لو حصل ذلك، وإلى سيطرة أمريكية- صهيونية مُطلقة على سواحل الشواطئ السورية اللبنانية وقطاع غزة، الغنية بالثروات النفطية…
بات واضحاً أنّ مخطط التحكم بالعالم العربي وتفتيته لضرب المنطقة بعضها ببعض لم يمت، وإن رحل صاحبه الأساس “كسينجر”، فهو لن يقف عند حد معين بالرغم من فشله في اماكن عدة، فقد استنهض مجدداً ليبدأ في قطاع غزة من شمالها إلى جنوبها، ليقف عند أبواب رفح، فهل تقضي عليه؟ في ظل التهرب العربي من واجباتهم القومية والدينية وخضوعهم لهذا المشروع، وما المشهد الأخير في تصدي بعض الدول العربية للهجمات الصاروخيّة الإيرانية على القواعد العسكرية الصهيونية في فلسطين المحتلة، سوى دليل حسي على سريان هذا المخطط، وهو أكبر بكثير مما حلم به “كسينجر” بنفسه!….فماذا لو هاجمت ايران الكيان المحتل بآلاف الصواريخ وعلى مدار أيام؟ فهل سيصمد الكيان الغاصب؟ وما هو موقف الدول العربية الداعمة له؟ في وقت ما زال التاريخ يتناقل موت “بروتوس” وحيداً كئيباً ومنتحرا…
عميد لبناني متقاعد