في الوقت الذي بدأنا نشهد فيه حالة إبجابية من التحولات الرسمية والشعبية تجاه القضية الفلسطينية بعامة وتجاه ما يحدث في غزة بخاصه، جاءت مقابلة جلالة الملكة رانيا العبدالله مع الإعلامية جوي ريد من محطة التلفزة الأمريكية (MSNBC) لتُعزّزهذه الحالة وتُكسبها مزيداً من الزخم النوعي. وجلالة الملكة التي تُعدّ واحدة من أبرزالشخصيات النسائية المؤثرة ليس على مستوى العالمين العربي والإسلامي فحسب بل على المستوى العالمي، إستطاعت في هذه المقابلة وبكل حنكة وذكاء وشجاعة أن تُوصِل العديد من الرسائل المؤثرة لتسريع وقف هذه الحرب غيرالمسبوقة في بشاعتها وعدم انسانيتها. لقد استطاعت جلالتها أن تعكس بجلاء حجم المأساه التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة وخاصةً من النساء والأطفال. ومن جهة أخرى، استطاعت جلالتها أن تكشف و بكل موضوعية حجم الخذلان والقهرالذي يشعر به المدافعين عن حقوق الإنسان، والراصدين لحجم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي ومُنتقدةً في الوقت ذاته وبجرأة غير معهودة عجزالنظام العالمي عن إيقاف الإبادة الجماعية والمعاناة غيرالإنسانية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة.
ولكي تكون جلالتها مؤثرة في إيصال هذه الرسائل، فقد استخدمت عدداً من الاستراتيجيات الفاعلة في الإقناع والتأثير. بدايةً، لقد استخدمت جلالتها بنجاح مُتميّز الأرقام الموثّقة والحقائق الموضوعية التي يُفترض أن لا تترك أي مجالاً للشك لدى المشاهدين، حيث استشهدت بما أشار إليه العاملون في المجال الإنساني الذين أكدوا أنهم لم يشاهدوا من قبْل حجم العقاب الجماعي الذي يتعرض له الفلسطينيون في هذه الحرب، موضحةً أنه تم تهجير مليون وسبعمائة الف شخص من منازلهم وتم استشهاد أكثر من 35,000 فلسطيني، 70% منهم من فئتي النساء والأطفال. ومن باب المقارنة التاريخية ، اشارت جلالة الملكة الى انه لم يُقتل هذا العدد من الاطفال وبهذا المعدل في أي وقت أخر في التاريخ مُنذ الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994. وأشارت جلالتها إلى أن القصف الإسرائيلي دمرّ 80% من المدارس، و80% من المراكز الصحيّة، و60% من المنازل، وهي نسب لم نشهدها في أي حرب عرفها التاريخ الحديث. إنّ الأرقام والحقائق الموثقّة التي استخدمتها جلالة الملكة بذكاء تُعدّ واحدة من أنجع إستراتيجيات الإقناع والتأثيرالتي لا تترك أيّ مجال للشك في مصداقية القضية المطروحة.
ومن الاستراتيجيات المُتميّزة الأخرى التي استخدمتها جلالتها بفاعليّة وذكاء منقطعيّ النظير تلك المُتعلقة بإجابة الأسئلة المطروحة بأسئلةٍ أكثرَ عُمقاً تَحملْ في ثناياها إجاباتٍ شافية ومؤثرة. فعلى سبيل المثال، عندما سُئِلت جلالتها: هل تعتقدين أن رئيس الوزراء الإسرائيلي مجرم حرب؟ لم تُجِب جلالتها بصورة مباشرة على هذا السؤال بل طرحت العديد من الأسئلة التي تقود المشاهد الى إستنتاج الإجابة حيث تساءلت جلالتها هنا: هل يمكن لأيّ مسؤول سياسي أن لا يكون مجرم حرب عندما يحرم الناس من أبسط حقوقهم الإنسانية وحاجاتهم الأساسية، ويستخدم التجويع كسلاح حرب، ويقوم بتهجير السكان من منازلهم، ويقتل أعداداً كبيرة منهم بصورة عشوائية؟! و في الرد على بعض الأسئلة المتعلقة بالشعور بخيبة الأمل والقهر في العالمين العربي والإسلامي، طرحت جلالتها الأسئلة التالية: لماذا يُطبّق القانون بشكل إنتقائي؟ وماذا يعني تطبيق القانون الدولي بشكل إنتقائي؟ أين العدالة هنا؟ ولماذا حياتنا أقل قيمة؟ وهل نحن مهمون في هذا العالم؟ وتحديدا عند سؤال جلالتها عن الأمل في حل الدولتين، ردت على السؤال بطرح أسئلة توحي بأنه لا بديل عن حل الدولتين وذلك عندما تساءلت: ما هو البديل بالنسبة للإسرائيليّن والفلسطينيّن؟ هل سنستمر في الدوران بملفاتٍ من العنف؟ هل ستحتل إسرائيل فلسطين إلى الأبد؟ هل تتحمل إسرائيل أن تبقى دولة منبوذة، دولة فصل عنصري؟ هل سيظل الفلسطينيون شعبٌ مقهور؟ الحقيقة أن مثل هذه الأسئلة التي طرحتها جلالتها في الرد على الأسئلة التي وجّهِت لها تدعو المشاهد الى التوقف والتفكيرمليّاً لأن إجابة الأسئلة بأسئلة عملية تُحاكي العقل والمنطق والوجدان.
ومن الاستراتيجيات الأخرى التي برعت جلالة الملكة بتوظيفها خلال هذه المقابلة هي استراتيجية استخدام لغة الجمع (نحن) بدلاً من لغة الأنا (أنا) لكي يكون المشاهد جُزءاً من القضية المطروحة يتفاعل معها و يتحمل المسؤولية تجاهها. ومن الأمثلة على ذلك إستخدام جلالتها لمصطلحات مثل: “كما تعلمون”،”ولكن بالنسبة للجميع”، “لقد رأينا مؤخرا”، “ونحن بالفعل متأخرين جدا”، “وكلما طال انتظارنا كلما كبرت وصمة العار على الضمير العالمي”، “فقد شعرنا بصدمة كبيرة”، “عندما يبدأ المجتمع الدولي”. إن استخدام مثل هذه المصطلحات خلال المقابلة يُعدّ على درجة عالية من الفاعليّة وذلك لأن جلالتها لا تريد مخاطبة المشاهدين على اعتبارأنها عربية مسلمة أو اردنية من أصول فلسطينية فقط بل على اعتبار أنها جزء من هذا العالم الذي يجب أن يتحمل فيه الجميع مسؤولياتهم وأن يعملوا معاً لمواجهة الظلم والكيل بمكيالين. وهذا يُسهم في تعزيزالتواصل الإنساني ويُزيل الحواجزالإنسانية والفكرية، ويطرح القضية على اعتبار أنها ليست قضية عربية إسلامية أوفلسطينية بل هي في الواقع قضية إنسانية لابُدّ وأن يتم التعامل معها على هذا الأساس.
و ختاماً، يبدو جليّاً أنّ جلالة الملكة أبدعت في هذه المقابلة ونجحت بصورة إستثنائية بلفتْ إنتباه العالم وبكل موضوعية وشجاعة وحنكة إلى حجم المأساة غيرالمسبوقة التي يتعرض لها الفلسطينيون بعامة وأهل غزة بخاصة. كما نجحت في توصيف حجم الانتهاكات الجسيمة للقانون الدولي والقانون الإنساني الدولي وخطورة التعامل مع هذه الانتهاكات بمعايير مزدوجة. وهذا النجاح المقرون والمُستنِد أساساً الى الجهود الدبلوماسية والإعلامية المتواصلة والحثيثة التي يبذلها جلالة الملك عبد الله الثاني منذ بدء الحرب على غزة ساهم ويُسهم بصورة فاعلة في التأثير بالرأي العام العالمي وتحويله ليكون أكثرإتزاناً في تعامله مع القضية الفلسطينية بعامة ومع حرب الإبادة التي يتعرض لها الفلسطينيون في غزة بخاصه.