صدى الشعب – عرين مشاعلة
ليلة الاثنين لم تكن كسائر الليالي في شارع بغداد بمدينة إربد، كانت ثقيلة صامتةومليئة بالهواجس. خلف نوافذ البناية العتيقة، كان سكانها يحدقون في الشقوق التي بدأت تزحف على الجدران يسمعون صوت الجدران وهي تئن، ويشعرون أن الخرسانة بدأت تهمس بوداع صامت. البعض لم ينم وآخرون أوشكوا أن يفقدوا كل شيء، إلا أن قرارًا إنسانيًا جاء في اللحظة الحاسمة، وكتب لهم النجاة.
فجر الثلاثاء، انهار المبنى المكوّن من أربعة طوابق، أمام أعين سكانه المذهولين، الذين وقفوا خلف شريط أمني فرضته الأجهزة المختصة، يشاهدون منزلهم يسقط قطعة قطعة، بينما يتساءلون بصمت: ماذا لو تأخر الإخلاء؟ ماذا لو غفل القرار؟
محافظ إربد رضوان العتوم، كان قد أصدر قرارًا عاجلًا بإخلاء البناية بعد تقرير فني صادر عن لجنة السلامة العامة ومجلس البناء الوطني، أشار إلى وجود تصدعات خطيرة تهدد حياة السكان. تحركت فرق الدفاع المدني وشرطة إربد بسرعة، وتم إخلاء جميع الشقق، إضافة إلى منزل مجاور، في خطوة استباقية أنقذت الأرواح من كارثة وشيكة.
وأكد العتوم أن الانهيار حدث بعد ساعات قليلة من عملية الإخلاء مشددًا على أن المؤشرات كانت واضحة وأن المشاهدات الخارجية والصور الموثقة أظهرت تهديدًا فعليًا يستوجب التحرك الفوري. كما أوعز وزير الأشغال العامة والإسكان إلى مجلس البناء الوطني بإيفاد لجنة مختصة من العاصمة للكشف الميداني، بالتعاون مع فرع نقابة المهندسين في إربد ونقابة المقاولين.
رئيس لجنة بلدية إربد الكبرى عماد العزام أرجع سبب الانهيار إلى أن الطابق الأرضي شُيد قبل 45 عامًا، فيما أُضيفت عليه ست شقق دون إجراء دراسات هندسية حقيقية تضمن سلامة الأحمال. وبيّن أن البناء لم يكن مؤهلًا لتحمل الإضافات، ما أدى إلى تهالكه وضعف بنيته داعيًا إلى عدم منح تراخيص لأي توسعات مستقبليّة إلا بعد تقارير فنية تؤكد قدرة البناء القائم على التحمل.
من جهته أوضح المهندس محمود الربابعة رئيس فرع نقابة المهندسين في إربد أن الانهيار كان نتيجة مباشرة لتحميل المبنى فوق طاقته دون دراسة إنشائية كافية. وأشار إلى أن التعليمات الفنية الجديدة تشدد على ضرورة تقييم أي مبنى قائم قبل إضافة أي طابق، خاصة إذا تجاوز عمره 20 عامًا، وهو ما لم يحدث في هذه الحالة.
أستاذ هندسة الإنشاءات والزلازل في الجامعة الأردنية،وخبير ورئيس اختصاص تقييم وسلامة المنشآت القائمة وإعادة تأهيلها الدكتور أنيس الشطناوي والذي حضر ميدانيًا عمليات الكشف وصف الحادث بأنه نتيجة طبيعية لتراكمات من الأخطاء. وأوضح أن المعاينة أظهرت تصدعات وهبوطات إنشائية خطيرة ميلًا في الهيكل، تآكلًا في الأعمدة وضعفًا واضحًا في الأساسات نتيجة تسربات مياه وأعمال توسعة تمت دون إشراف هندسي حقيقي، وبمصنعية رديئة.
وأشار إلى أن تنفيذ التوسعة تم دون دراسة التربة أو حساب الأحمال، وجرى بتجاوز للكودات الفنية والأنظمة، مؤكدًا أن الخلل لا يكمن فقط في المبنى ذاته، بل في المنظومة الإنشائية بكاملها، من ضعف الرقابة على التصاميم والتنفيذ، إلى تساهل في التدقيق على تقارير الفحص والمختبرات، وتسجيل مقاولي بناء غير مؤهلين.
سكان البناية الذين تم إخلاؤهم عبروا عن شكرهم للجهات الرسمية التي تدخلت في الوقت المناسب لكنهم أبدوا ألمهم لخسارتهم ممتلكاتهم. أحد السكان قال إنه فقد أثاثًا ومحتويات بقيمة عشرة آلاف دينار، ولم يُسمح لهم بإخراج أي شيء. “خرجنا بأرواحنا فقط”، قالها وهو يشير إلى الشقة التي كانت يومًا كل عالمه.
مديرية التنمية الاجتماعية أكدت أن كوادرها تواجدت في الموقع فورًا، وتواصلت مع السكان الستة المتضررين لتأمينهم بمأوى طارئ. وتم توفير سكن مؤقت في بيت شباب إربد المجهز بأسرة ومكيفات ومطابخ، إلا أن أغلب السكان فضلوا الانتقال إلى منازل أقاربهم .
ختاما ،ما جرى في إربد فجر الثلاثاء ليس مجرد سقوط مبنى بل سقوط منظومة بحاجة لإعادة بناء.
المبنى انهار نعم، لكن الأسئلة بقيت: من سمح بهذه التوسعات؟ لماذا لم تُكتشف المخالفات قبل أن تصبح خطرًا؟ وأين الرقابة أثناء التنفيذ؟
الحمد لله الذي أنقذ الأرواح، ولكن لا يكفي أن نقف على الأنقاض ونشكر النجاة. يجب أن نبدأ من هنا، من الحطام، بمحاسبة كل من أهمل، ووضع منظومة صارمة للرقابة الفنيةوالتفتيش الهندسي الميداني وترخيص المقاولين وتقييم المباني القديمة قبل أي تعديل أو إضافة.
سلامة الإنسان ليست إجراءً شكليًا في ملف ترخيص، بل مسؤولية وطنية ومهنية وإنسانية لا تقبل التساهل.
وإذا كانت هذه الحادثة قد مرت بسلام، فالخطر ما زال قائمًا إن لم نتحرك سريعًا.
