صدى الشعب – كتبت تمارا خزوز
في غزة، نماذج ملهمة لأطباء حملوا رسالة الطب كما يجب أن تكون. أسماء مثل الدكتور حسام أبو صفية وقبله الدكتور عدنان البرش، إلى جانب أطباء أردنيين وعرب آخرين، تطوعوا للعمل في غزة وسطروا ملاحم بصمودهم وشجاعتهم. لقد أصبحوا أيقونات أخلاقية تذكرنا بقدسية مهنة الطب وقيمها النبيلة التي تهدف إلى إنقاذ الأرواح وخدمة المحتاجين دون اعتبار للعائد المادي.
لم يعد بالإمكان تجاهل هذه النماذج دون إسقاطها على واقعنا الطبي بمختلف تجلياته، في ظل الشهادات اليومية التي نسمعها أو المواقف التي نتعرض لها عند التعامل مع القطاع الصحي وتحمل تكاليف بعض الإجراءات الطبية التي بلغت كلفا خيالية، تغيب عنها في كثير من الأحيان التفسيرات المنطقية لتبريرها.
الإشكالية لا تتوقف عند الفواتير الباهظة، بل تتجاوزها إلى ظاهرة «التكييش»، وهي الدفع النقدي المباشر لبعض الأطباء قبل الإجراء الطبي، ودون توريد فواتير ضريبية.
يضاف إلى ذلك مشاهد الانتظار المهين للمرضى لساعات في عيادات بعض الأطباء، ليس بسبب انشغالهم بالحالات الطارئة أو العمليات، بل لتكديسهم المواعيد بشكل يفوق طاقتهم الاستيعابية.
إضافة إلى ذلك، ازدادت ظاهرة الترويج التجاري المبالغ فيه لبعض الأطباء على صفحات التواصل الاجتماعي، مما يشكل انتهاكاً لقدسية مهنة الطب وتحويلها إلى سلعة تجارية تخضع لمنطق التسويق والإعلانات. وبدلاً من التركيز على الكفاءة والخبرة، أصبح النجاح يعتمد بشكل متزايد على القدرة على التسويق الشخصي، وهو ما قد يؤدي إلى تزييف الحقائق أو المبالغة في الادعاءات لاستقطاب المرضى أو استغلالهم.
إذا كنا نتحدث اليوم عن تمتين الجبهة الداخلية لمواجهة التحديات القادمة، فإن أي ملف يتعلق بصحة الناس أو مستقبل أبنائهم أو ضمان تقاعدهم هو ملف أمن قومي بامتياز. يجب التعامل معه بصرامة وجدية وسرعة من قبل الدولة.
وإلا فإن استمرار غياب الرقابة والإصلاح قد يؤدي إلى انفجار هذه المشكلات بعواقب وخيمة على المستويات الأمنية والاجتماعية والاقتصادية.
وعلى الصعيد الاجتماعي والديني، تقع علينا جميعا مسؤولية إعادة الاعتبار للقيم الأخلاقية التي تضع صحة الإنسان وتعليم الأجيال القادمة فوق أي حسابات مادية.
وهذا يتطلب حواراً وطنياً واعياً يشارك فيه الخبراء والمسؤولون والمواطنون، لتسليط الضوء على الممارسات غير الأخلاقية التي تثقل كاهل الناس وتتنافى مع المبادئ التي قامت عليها مهنتا الطب والتعليم.
كما يجب أن تترافق هذه الجهود مع حملات توعوية تُذكّر المجتمع بقدسية هاتين المهنتين ودورهما المحوري في بناء مستقبل أكثر إنسانية وعدلاً، مع التأكيد على أثر المساس بهما على كل بيت وعائلة في الأردن.
أمثال الدكتور حسام أبو صفية والدكتور عدنان البرش قدما لنا درساً في القدسية والأخلاق، وهي دروس يجب أن نستلهمها لإصلاح واقعنا اليوم.
ليس مطلوباً أن نتضامن مع حسام أبو صفية على صفحات التواصل الاجتماعي فحسب، بقدر ما هو مطلوب أن نستفيد من نموذجه. فأمثال هؤلاء وجدوا ليُلقنونا دروساً في الأخلاق والإنسانية، فإذا لم نستخلص الدروس من غزة، فمن أين إذا؟!