لم يتصور أحد منا أن يأتي اليوم الذي يتوجه فيه الآلاف من الأميركيين المدججين بالغضب والتعصب الحزبي والطائفي إلى العاصمة للاحتجاج على نتائج انتخابات في بلد يرسل الخبراء والبعثات ويؤسس المعاهد للتدريب عليها. فمن غير المتوقع أن يحدث مثل ذلك في دولة اتخذت دور الحارس الأول للديمقراطية والراعي لها التي تتطلع الأقليات لتدخّلها كلما اشتدت محنتهم أو جرى التضييق عليهم من قبل الأنظمة المستبدة وحكامها الطغاة حول العالم.
في سابقة هي الأولى في تاريخ الولايات المتحدة يعلن الرئيس الخاسر في الانتخابات اعتراضه على النتيجة ويتهم الحزب المنافس بالتزوير ويدعو أنصاره إلى الاعتراض والتظاهر أمام بيت المجالس المنتخبة بعد أن حاول كل حيلة ممكنة للطعن في النتائج والتحريض على الرئيس المنتخب وحكام الولايات من الحزب الديمقراطي.
المراقبون في الولايات المتحدة والعالم يتابعون ما يجري وسط دهشة واستغراب تجاه ما يجري للديمقراطية في حصنها المزعوم. البعض ينظر لما يحدث باعتباره إعلان رخصة جديدة للشعوب والأنظمة بمغادرة مربع الديمقراطية والبحث عن أساليب ونظم جديدة للحكم والإدارة.
ما يحصل في أميركا اليوم ليس جديدا على العالم فهو تقليد وخيار تقوم به الأنظمة السياسية الانقلابية والدكتاتورية التي تضطرها الظروف لإجراء انتخابات شكلية تقوم على هندسة عملياتها ومخرجاتها وتنقلب عليها إذا لم تتوافق النتائج مع رغبات الحكام.
الولايات المتحدة التي عاشت حروبا أهلية واحتجاجات عرقية قادت إلى تعديلات دستورية وإصلاحات سياسية تواجه اليوم أزمة جديدة في الحكم حيث كشفت جرأة وعفوية ترامب الكثير من أوجه النفاق والتحايل والتباين بين النصوص والقيم وسلّط تهوره الضوء على غطرسة الدولة وتدخلاتها السافرة في شؤون العالم تحت غطاء الديمقراطية وسيادة القانون.
السلطة شبه المطلقة التي تتمتع بها الولايات المتحدة في النظام العالمي تتعرض إلى هزة كبيرة اليوم فقد بقيت أميركا ولما يزيد على ثلاثة عقود اللاعب الرئيسي في تشكيل صورة ونمط النظم والعلاقات على وجه الكوكب تارة بقوتها وتقدمها وسبقها العلمي والتكنولوجي والاقتصادي والعسكري وأخرى بامتلاكها قوة التأثير على المنظمة الأممية وتسييرها بالاتجاهات التي تخدم مصالحها.
لا أحد يعرف تماما إذا ما كان انتخاب ترامب العام 2016 تعبيرا عن حالة الضجر والضيق التي شعر بها الأميركيون من الطرق والوسائل التي ينهجها الساسة التقليديون أم أنها صدفة تأثرت قليلا بتاريخ الرجل في عالم المصارعة والبرامج التلفزيونية الجماهيرية التي كان يقدمها. أيا كانت الأسباب فمن الواضح وجود تحول في اتجاهات الناخب الأميركي وسعيا للبحث عن نماذج غير تقليدية من الساسة والزعماء وهذا ما قاد إلى اختيار أوباما كرئيس لدورتين متتاليتين.
في منطقة الطفيلة وما حولها مقولة شعبية شهيرة ومعبرة يلجأ لاستخدامها الناس كلما احتاجوا للتأكيد على تشابه البشر وظروفهم وتصرفاتهم. المقولة أو الحكمة الطفيلية “البين هانا وفي ضانا” تختصر ما يدور في أذهان الناس وهم يتابعون أحداث واشنطن التي بدأت في 6 كانون الثاني من هذا العام فمثل هذا الحدث شاهدناه في معظم بلدان الربيع العربي تارة بتحريض الزعماء وتارة بترتيب من الأجهزة وأخرى بمعرفة وتدبير من الولايات المتحدة وحلفائها.
الصور الهمجية للأشخاص الذين يرتدون ألبسة الإنسان البدائي أو صبغ الوجه واقتحام أكثر مؤسسات المجتمع رمزية والاستيلاء على بعض محتوياتها سلوك يعبر عن وصول المجتمع إلى النقطة الحرجة حيث تتداخل الفوضى مع النظام والخوف مع الطمأنينية ويضيع مفهوم العدل وتنزلق المبادئ على وحل الأنانية ويتم كل ذلك بتأويلات متباينة لمفهوم الديمقراطية وخدمة المصلحة العامة.
الولايات المتحدة ليست الوحيدة التي تعاني من هذه الأزمة فهي أزمة عصر تنتقل كعاصفة تضرب كل الأصقاع لكن وقعها على البعض قد يكون أشد مما يمكن أن تشعر به الأطراف الأخرى.