نورالدين نديم
عاشت دولة الكيان الصهيوني، فترة ذهبيّة من عمرها، كان محيطها يعتقد بأنها (وفق ما مارسته وحلفائها من دعاية) ذات قدرات خارقة وجيش لا يُقهر، رغم ما واجهته من مقاومة إحترافيّة، في الكرامة الأردنيّة، واقتحام القوات المصرية لخط بارليف، والمواجهات والعمليات الفدائية ما قبل وبعد إجتياح بيروت على يد المنظمات والفصائل الفلسطينيّة.
كان الكيان الصهيوني يخوض حروبه بجيشه (مدعوماً من حلفائه) على أرض غيره، فإذا إجتاح وانتصر، إحتل واستوطن وتوسع، وإن كان غير ذلك تراجع وعاد إلى معسكراته ومغتصباته، دون خسارة لما كان قد تمكن منه من مساحة أرض، ثمّ إنتقل بعد ذلك إلى مرحلة أكثر أمناً، يخوض فيها حروبه بجيش غيره على أرض غيره، ويكتفي بالمراقبة، وقطف الثمرة حال انتهاء المعركة.
لكن ما حدث مؤخراً من فعل المقاومة الوطنية الفلسطينية يعتبر صدمة في تاريخ التكتيك الصهيوني في القتال، بعد أن تمكنت المقاومة من نقل المعركة إلى الأراضي التي يسيطر عليها الكيان الصهيوني، وضربتهم في عُقر مغتصباتهم وأصابتهم في مقتل.
قد يتفوق الكيان في مجال جيش الدولة المنظم الذي يمتلك قوة ضاربة في المدفعية والطيران، لكن في المقابل تتفوق المقاومة في مجال الحرب الشعبية، وحرب الشوارع، وشبكة الأنفاق التي تصل حد وصفها بمدينة تحت الأرض.
حتى أنها طوّرت نظاماً خاصّاً لها في التواصل والاتصال، وتوفير مصادر المياه والطاقة، وحتى التموين، بالاضافة إلى قدرتهم على التنقل والاختفاء دون الحاجة الى الظهور فوق الأرض لشهور عديدة.
وعليه فإن الكيان الصهيوني، مهما استبد وتغول في هجومه الجوّي تدميراً، طال البنية التحتيّة لقطاع غزة فوق الأرض، فلن يستطيع النيل من البنية التحتية تحت الأرض، إلا إذا حقق معجزةً عسكريّة، لا تخضع لمنطق المقاربات والحسابات الأرضيّة.
ولذلك فإنه تحوّل من فكرة الاجتياح البرّي الشامل، بعد ما يُقارب الشهر من توجيه الضربات الجويّة وفق سياسة الأرض المحروقة، إلى الزحف في إتجاهات محدودة، لمسافات قليلة، مع بقاء الغطاء الجوّي الذي لو ينكشف لساعات قليلة، فإن جميع آلياته وجنوده على البر وفي البحر، سيقعون فريسةً سهلةً في كمائن المقاومة، وفي مرمى نيران قنّاصتها.
كما هو من الصعب على جيش الاحتلال، القتال في مثل هذه الظروف، فإن المقاومين من الفصائل الفلسطينية في قطاع غزة، تنمو قدراتهم، ويزداد استبسالهم وابداعهم، في هكذا ظروف.
فالأرض أرضهم والحق حقّهم وهذا دافع، والموت في سبيل الله أسمى أمانيهم وهذا حافز، ومشاهد القتل والدمار لبيوتهم وعائلاتهم يعتبر مسعّراً لنيران الغضب في نفوسهم ويفتح شهيّتهم على الثأر والانتقام.
فلا مقارنة بين الحالة النفسيّة للجندي الصهيوني، و حالة المقاوم الفلسطيني، ولمن يقارب ويشابه بين الحالة الأوكرانيّة والفلسطينيّة، نقول أن الفرق كبير، بين صراع وجود له جذور عقديّة، يحاول فيه شتات من حول العالم أن ينتزع شعباً من أرضه ويمحو هويّته، ليحل بذاته وصفاته مكانه دون أدنى مقوّمات تاريخيّة أو حضاريّة، وبين صراع نفوذ سياسي ومصالحي تطوّر ليصبح صراعاً عسكريّاً له امتدادات إقليميّة وخفايا إقتصاديّة.
يكثر التحليل وتتعدد زوايا قراءات المشهد في غزة اليوم، لكن الجميع يتفقون على أن هذه الحرب هي حرب وجود للفلسطينين كقضيّة وكحركة نضالية وطنية وكأرض وإنسان.
كما يتفق الجميع أن سكون المقاومة ورضوخها للواقع وقبولها بالمسار السياسي وتخليها عن سلاحها، لن يكفيها شر الاحتلال ومكره، ولن يمنحها الحياة الكريمة ولا الاستقلال المنشود.
ولنا في اتفاقية أوسلو وما خاضته قيادة منظمة التحرير الفلسطينية من قرار معلن بقبول حل الدولتين والموافقة على كافة القرارات الدولية، عظة وعبرة، وكما قيل فإنّ العاقل من اتعظ بغيره والأحمق من اتعظ بنفسه.