صدى الشعب – راكان الخريشا
في زمن تتزاحم فيه الأخبار وتتشابك الحقيقة بالشائعة، تبرز التربية الإعلامية كدرع واق وضرورة وطنية لحماية الوعي الجمعي من سيل التضليل والمعلومات المغلوطة، ومع اتساع نفوذ المنصات الرقمية لم يعد المتلقي مجرد مستهلك للمعلومة، بل بات شريكا في صناعتها ونشرها ما يجعل الوعي الإعلامي مسؤولية مجتمعية تتقاسمها مؤسسات التعليم والإعلام مع الأفراد أنفسهم، وتفتح هذه القضية باب التساؤل حول مدى جاهزية المجتمع لتبني مفاهيم التربية الإعلامية كجزء من منظومة الأمن الفكري، وأهمية غرس التفكير النقدي في الأجيال الجديدة لمواجهة فوضى المحتوى والرسائل الرقمية الموجهة.
وبهذا السياق قالت مديرة الإعلام في جامعة البلقاء التطبيقية، الدكتورة ربا زيدان، إن اليوم نعيش في زمن فقدت فيه المعلومة براءتها، ولم تعد الحقيقة واضحة أو محايدة كما كانت من قبل، إذ بات مصدرها غامضًا ومتعددًا في آن واحد، فاليوم يستطيع أي شخص أن يصنع “خبرًا” أو “صورة” ويغمر بها الفضاء الرقمي خلال ثوان مستخدمًا أدوات الذكاء الاصطناعي التي تزيّن الكذب وتمنحه مظهرًا عقلانيًا وجذابًا في الوقت نفسه.
وتابعت زيدان من هنا تأتي أهمية التربية الإعلامية لا بوصفها نشاطًا أكاديميًا، بل كمشروع وعي وطني شامل يهدف إلى تدريب الأفراد على التمييز، والتفكير قبل المشاركة، ومعرفة كيفية استهلاك الإعلام وإنتاجه بمسؤولية، وهذه ليست معركة ضد التكنولوجيا، بل معركة من أجل الإنسان وسط الفوضى الرقمية المتصاعدة، خصوصًا في ظل الظروف الجيوسياسية الراهنة في المنطقة، وما تشهده من حروب إعلامية وحملات تضليل ممنهجة تستهدف الحقيقة ذاتها.
وأوضحت زيدان الشباب هم الفئة الأكثر عرضة للتأثر بالمحتوى الإعلامي لأنهم يعيشون داخل الشبكة الرقمية لا خارجها، وتربيتهم إعلاميًا لا تعني أن نحذّرهم من مواقع التواصل الاجتماعي أو نمنعهم منها، بل أن نمنحهم البوصلة التي تساعدهم على الوعي والتمييز، والتربية الإعلامية الذكية والفاعلة هي التي تُدرّب العين والعقل معًا، لتعلّمهما كيف يلتقطان الإشارات الصغيرة في الخطاب المكتوب أو المرئي أو المسموع، وكيف يفرّقان بين الرأي والتحريض، وبين الاختلاف والكراهية، والخطاب السام لا ينتشر بالضرورة لأنه مقنع بل لأنه مصاغ بلغة العاطفة، وعندما نعلّم الشباب أن ينتبهوا للغة، وأن يسألوا من يتحدث؟ ولماذا الآن؟ فإننا نحميهم من التورّط في دوامة التضليل، ونمنحهم أدوات التفكير النقدي التي تضمن لهم البقاء على وعي وسط هذا الطوفان الإعلامي الجارف.
وبينت زيدان الناس لا تنشر الشائعات بدافع الشر دائمًا، بل غالبًا بدافع الخوف أو الفضول أو الرغبة في الفهم عند غياب المعلومة، وحين يغيب الوعي الإعلامي وتختفي الشفافية، تملأ الشائعة هذا الفراغ لأنها تقدم تفسيرًا سريعًا للحدث، حتى وإن كان زائفًا، والتربية الإعلامية ليست مادة تعليمية فحسب، بل أسلوب حياة يفتح نوافذ التساؤل والتمحيص أمام الجمهور، وحين يتعلم مستهلكو الأخبار أن يتوقفوا لحظة قبل أن يضغطوا زر (إرسال) أو (مشاركة)، فإنهم يصبحون أكثر مسؤولية تجاه مجتمعهم الأكبر، والوعي الإعلامي لم يعد رفاهية فكرية، بل أصبح أحد مقوّمات السلم المجتمعي، لأن الكلمة الخاطئة أو التوصيف غير الدقيق اليوم قد يشعلان حربًا غدًا، مشددة على أن حماية الحقيقة تبدأ من وعي الأفراد بكيفية التعامل مع المعلومة.
وأشارت زيدان الأمن لم يعد مرتبطًا فقط بالحدود أو الجيوش، بل بعقول الناس ووعيهم المعارك الحديثة تُخاض بالمعلومات، وبالصور التي تُبثّ دون رصاصة واحدة، وحين يتمكن شخص أو جهة من زعزعة ثقة الناس بمؤسساتهم أو واقعهم عبر رسالة مدروسة، فذلك شكل من أشكال الحرب الناعمة، والتربية الإعلامية تمنح المجتمع جهاز مناعة ضد هذه الحروب إنها لا تُملي على الناس ماذا يصدقون، بل تزرع فيهم ملكة السؤال المواطن الواعي هو الذي لا يُستدرَج بسهولة، ولا يتحوّل إلى أداة في معارك الآخرين، ولهذا أرى أن الاستثمار في التربية الإعلامية هو استثمار في استقرار المجتمعات باختلاف طبيعتها شريطة ان تكون قنوات الاتصال مفتوحة دوما مع الصحافة الحرة والمستقلة.
ونوهت زيدان إننا مقبلون على مرحلة يصبح فيها التمييز بين الحقيقي والمصنوع من أكثر مهارات الحياة أهمية الذكاء الاصطناعي قد يتطور لدرجة تجعل (المشهد المزوّر) مقنعًا أكثر من الحقيقة نفسها، والتربية الإعلامية في هذا السياق يجب أن تتحوّل من برامج توعوية محدودة إلى ثقافة عامة تمتد من المدرسة إلى الجامعة إلى الإعلام نفسه، ولا بد أن يتعلم الناس كيف يفككون المحتوى، لا كيف يستهلكونه فقط، المستقبل لن يعيد لنا البساطة لكنه قد يعيد لنا الوعي إذا استثمرنا فيه، والتربية الإعلامية في جوهرها ليست عن الإعلام فحسب، بل عن الإنسان الذي يريد أن يظل قادرًا على الفهم وسط هذا الاستقطاب والتناحر اليومي.
وأضافت زيدان التحديات أمام التربية الإعلامية اليوم لا تقتصر على المحتوى الرقمي وحده، بل تمتد لتشمل الوسائط التقليدية أيضًا، حيث بات كل وسيلة سواء كانت صحفًا، إذاعة، أو تلفزيون قادرة على تشكيل الرأي العام بسرعة كبيرة، وقد تصل أحيانًا إلى التأثير على القرارات المجتمعية والسياسية. والمسؤولية تقع على عاتق جميع الأطراف المؤسسات التعليمية، وسائل الإعلام، وحتى الأفراد، لتبنّي منهجية نقدية واضحة تُعلّم المستهلكين كيفية فحص المصادر والتساؤل عن المعلومات قبل قبولها أو تداولها. والقدرة على التشكيك البناء لم تعد مهارة اختيارية، بل أصبحت أداة أساسية لمقاومة التضليل، وحماية الأفراد من الوقوع ضحية الأخبار الزائفة أو الحملات الدعائية الموجهة، خصوصًا في ظل تصاعد قوة أدوات الذكاء الاصطناعي التي تمكن من إنتاج محتوى مزيف بمظهر عقلاني وجاذب يصعب تمييزه عن الحقيقة.
وشددت زيدان على أن الاستثمار في الوعي الإعلامي لا يقتصر على حماية الأفراد من التضليل، بل يشكل ركيزة استراتيجية لتعزيز الثقة المجتمعية والمشاركة الفاعلة في الحياة العامة، والمواطن الواعي هو الذي يستطيع أن يفرق بين التأثير الإعلامي المشروع والتحريض الممنهج، ويصبح بذلك جزءًا من شبكة أمان اجتماعي تحمي المجتمع من الانزلاق نحو الاستقطاب والخلافات المتصاعدة، والتربية الإعلامية يجب أن تتحوّل إلى ثقافة عامة تمتد من المدرسة إلى الجامعة ومن الإعلام إلى جميع مؤسسات المجتمع المدني، بحيث يصبح لدى الأفراد أدوات لفك شفرة المحتوى الإعلامي، وليس مجرد استهلاكه، المستقبل لن يعيد البساطة السابقة لكن يمكن أن يعيد للإنسان وعيه وقدرته على الفهم إذا استثمرنا في التربية الإعلامية بشكل منهجي ومستمر، وهذا الاستثمار يمثل ضمانة لبقاء المجتمعات أكثر استقرارًا وقدرة على مواجهة التحديات الرقمية والجيوسياسية في الوقت نفسه.






