من صبحا إلى العالم “غزوة متروك العون” تغزو الصحراء بعشقها للبادية
صدى الشعب – راكان الخريشا
في البادية الأردنية الشمالية، حيث يلامس الرمل الأفق وتتناثر الخيام كنجوم على أرض الصحراء، تنبض حياة تختلف عن أي صورة نمطية قد تخطر على البال، حيث الهواء مشبع برائحة الأرض الجافة وأصوات الرياح تحكي قصصًا عمرها قرون، تعيش قصة استثنائية تُروى عبر عدسة امرأة اختارت أن تجعل من الصحراء بيتًا، ومن الضوء لغة، ومن التراث رسالة حيّة إنها غزوة متروك العون، ابنة صبحا، التي حملت معها شهادات أكاديمية رفيعة من جامعات أردنية ودولية، لكنها وضعتها جانبًا لتعود إلى أصلها البدوي، وتكتب بريق الحياة اليومية في صور لا تُمحى.
ولدت غزوة في لندن، ودرست إدارة الأعمال في الجامعة الأردنية، ثم حصلت على درجة الماجستير من جامعة آل البيت، لتبدأ مسارًا أكاديميًا كان يمكن أن يقودها إلى حياة مكتبية مستقرة في عمّان، لكنها سرعان ما أدركت أن قلبها معلق بالصحراء، وأن جذورها في صبحا على أطراف البادية الشمالية الشرقية أقوى من أي صخب مدني، منذ عام 2007، حين استقرّت هناك بحكم عمل زوجها، اتخذت قرارها بأن تكون ابنة الصحراء بحق لتكتب حكاياتها بعدسة الكاميرا وتوثّقها بأمانة ومهارة، ولتصبح رمزًا لشغف يحوّل الهوية الشخصية إلى إرث إنساني عالمي.
وفي حديث صريح، فتحت غزوة العون قلبها لـ”صدى الشعب” لتروي رحلتها من قاعات الجامعة إلى رمال الصحراء، ومن سيرة أكاديمية لامعة إلى رسالة بصرية تحفظ ملامح تراث يتوارى أمام زحف الحداثة، وتكشف كيف يمكن للشغف الشخصي أن يتحول إلى إرث حيّ يخلّد حياة مجتمع كامل.
العودة إلى الأصل
تقول غزوة إن علاقتها بالبادية لم تنقطع يومًا “أنا بدوية من صبحا، وأسماء عائلتي تحمل نكهة الصحراء سفّاح، عرسان، مطرّد كلها أسماء بدوية خالصة، لم يكن الانتقال من المدينة إلى البادية تحولًا مفاجئًا، بقدر ما كان عودة كاملة للأصل، لحياة لم تغادرني أصلًا.”
تصف البيئة هناك بأنها مختلفة تمامًا عن المدن، بطبيعتها وناسها وحكاياتها، والجلسات العائلية المتكررة مع الجدات والجيران كانت مدرستها الأولى في التوثيق، فقد اعتادت أن تستمع لتفاصيل الماضي، من قصص السكن في بيوت الشعر إلى طقوس الأعراس والوشوم وأغاني السمر، ومع فضولها الفطري، تحوّلت هذه الجلسات إلى دافع جمع وتوثيق، فبدأت تدوّن وتلتقط الصور لتصنع مرجعًا للأجيال القادمة يحفظ ذاكرة البادية من الضياع ويصوغها بطريقة تفوق أي كتابة أكاديمية.
عدسة تحفظ الحكاية
مع تطور التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي، قررت غزوة أن تخطو خطوة إضافية باتجاه الاحتراف في التصوير الفوتوغرافي، الكاميرا بالنسبة لها لم تكن مجرد أداة، بل وسيلة لإنقاذ ذاكرة كاملة من الضياع تقول “حرصت أن أوثّق كل ما هو جميل بطريقة إيجابية ومشرّفة تليق بمجتمعي البدوي، وهذا ما جعل المجتمع نفسه يثق بي ويمنحني فرصًا أكبر للدخول إلى تفاصيل حياته.”
جمعت غزوة أكثر من ثلاثين ألف صورة على مدار سنوات، صور لوجوه الجدات الموشومة، للخيام الممتدة على الرمال، لأطفال يركضون في رحابة الصحراء، ولموائد طعام تعكس كرم البدو وأصالتهم كل صورة كانت شهادة، وكل لقطة رسالة، لتصبح بذلك أول امرأة أردنية متخصصة في توثيق التراث البدوي غير المادي من خلال التصوير، وتحولت عدستها إلى أداة سرد حيّة تنقل حياة البادية من ذاكرة الماضي إلى عيون العالم.
وأضافت العون إن أهم ما تحرص عليه هو تصوير الحياة اليومية كما هي، دون تزييف أو تصنع، لتقديم صورة صادقة للبادية، “الناس يثقون بي لأنني أتعامل معهم بصدق وأحترم خصوصيتهم، وهذا جعلهم يفتحون لي أبواب بيوتهم وقلوبهم”.
من الصور إلى الكتب
لم تكتفِ غزوة بالتصوير، بل أرادت أن تمنح مشروعها بعدًا أكثر رسوخًا، فحوّلت صورها إلى كتب وثائقية، صدر كتابها الأول بعنوان “جمال جدتي البدوي“، ليحمل بين صفحاته ملامح حياة البادية بيت الشعر، قصص الأطفال، الطعام، الأعشاب الطبية، وأبرزها الوشوم.
اختيارها للوشم لم يكن عشوائيًا، فقد رأت فيه رمزًا من رموز الهوية البدوية، وقررت أن تُعيد له مكانته باعتباره ذاكرة جسدية متوارثة، وثّقت ما يقارب ثلاثين وشمًا مختلفًا، متشابهة في الرسومات لكنها تحمل أسماء تتباين من عشيرة إلى أخرى، بالنسبة لها، كان الوشم حكاية تختزن رموز الانتماء والهوية، وهو نافذة لرؤية البادية بعمق جديد، يمنح كل رمز معنى يرتبط بتاريخ شخصي وجماعي، يربط بين الأجيال ويخلّدها.
ثم جاء كتابها الثاني في عام 2021 بأسم “صقور البادية“، ليحكي قصة قضاء صبحا، مخلّدًا أسماء رجاله وصورهم باعتبارهم حماة للوطن الذين قدّموا أرواحهم فداءً للأردن، ولم تتوقف عند ذلك، إذ تعمل حاليًا على إصدار جديد يتناول حياة البادية قديمًا وحديثًا، بالتعاون مع جامعتي “نيوكاسل” و”نورث أمبريا”، بإشراف الدكتورة أوليفيا ماسون، في مشروع بحثي يوثّق البادية باعتبارها إرثًا إنسانيًا عالميًا، ليكون مرجعًا أكاديميًا وفنيًا في الوقت ذاته.
معارض وجوائز
لم تبقَ صور غزوة العون حبيسة الكتب، بل جالت بها في معارض داخل الأردن وخارجه، حيث كانت تعرض الصحراء بوجهها الحقيقي، بعيدًا عن الصور النمطية المكرّسة عن البدو تقول “قديمًا كان تسليط الضوء على مناطقنا محدودًا، وغالبًا ما جاءت الصور من سياح غرباء لا يعرفون تفاصيل المكان، أنا أردت أن أقدّمها من الداخل، من قلب المجتمع، بصورة مشرّفة وجميلة.”
هذه الجهود أثمرت عن اعتراف وطني ودولي بعملها، كان أبرزها منحها وسام اليوبيل الفضي من جلالة الملك عبد الله الثاني، تقديرًا لإسهاماتها المميزة في مجال الثقافة والتراث، لتصبح بذلك نموذجًا يحتذى به في الجمع بين الشغف الشخصي والخدمة الوطنية، وجسورًا تصل بين الهوية المحلية والرؤية العالمية.
أصبح نشاطها في المعارض ليس مجرد عرض فني، بل منصة لتبادل الخبرات مع مصوّرين وباحثين دوليين، ومساهمة في تعريف العالم بالبادية الأردنية، وتراثها العريق الذي يضاهي أي ثقافة أخرى في ثراء التفاصيل الإنسانية والاجتماعية.
المرأة والتراث
وعن دور المرأة في حفظ التراث، ترى العون أن المسألة لا تتعلق بالجندر بقدر ما تتعلق بالشغف والقدرة على الاستمرار تقول “لا فرق بين الرجل والمرأة في التوثيق، المهم أن يكون لدى الشخص الشغف والإمكانيات والقدرة على الاستمرار، التراث بحاجة إلى من يؤمن به ويحمله، لا إلى من يكتفي بالحديث عنه.”
وتضيف العون أن وجود المرأة في هذا المجال مهم جدًا، فهي قادرة على الوصول إلى تفاصيل دقيقة وحياة الناس اليومية بطريقة مختلفة عن الرجل، خاصة في مجتمعاتنا التي تحافظ على خصوصية العائلة والنساء، هذا المزيج بين الرؤية النسائية والجرأة في التعبير منح أعمالها عمقًا وحساسية لم يكن ليحققه أي مخرج آخر.
الهوية التي لا تزول
رغم زحف الحداثة وسرعة التغيير، لا ترى غزوة أن التراث البدوي مهددًا بالاندثار، برأيها العادات والتقاليد والقيم جزء من الهوية الأردنية التي لا يمكن التخلي عنها تقول “التغيير بالنسبة لي أمر إيجابي إذا جاء مع وعي، أما الأصالة فستبقى حجر الأساس في بناء المجتمع، علينا أن نعيش الحداثة دون أن نغفل جذورنا.”
وتضيف أن الشباب في البادية لديهم فرصة ذهبية لربط الماضي بالحاضر، من خلال الإبداع الرقمي والتوثيق البصري، حتى يشعر كل طفل بفخر جذوره، وكل زائر يعرف أن وراء هذه الرمال حياة تستحق أن تُروى وتحفظ.
رسالة بصرية للأجيال
اليوم، ينظر الكثيرون إلى غزوة العون بوصفها شاهدة على ذاكرة وطنية وإنسانية، هي ليست مجرد مصوّرة تبحث عن لقطة جميلة، بل مؤرخة بصرية تحفظ وجوه الناس وأغانيهم ووشومهم وصور خيامهم من النسيان، ومن بين كثبان المفرق وسماء صبحا، تصوغ قصتها بالضوء والظل لتقول للعالم إن الصحراء ليست فراغًا، بل حياة نابضة بالأصالة، وهوية راسخة في وجدان الأردنيين.
وتؤكد العون “رسالتي ليست مجرد صور، بل حياة وعطاء وهوية يجب أن تعرفها الأجيال القادمة، حتى يشعر كل طفل صغير من البادية بفخر جذوره، وكل زائر من خارجها يعرف أن وراء هذه الرمال قصة إنسانية تستحق أن تُروى وتُحفظ.”
ومع كل صورة تلتقطها، وكل كتاب تصدره، وكل معرض تُقيمه، تثبت غزوة متروك العون أن الشغف لا يعرف حدودًا، وأن العودة للأصل ليست تراجعًا، بل اختيار حياة مليئة بالمعنى، وصناعة إرث يخلّد الناس والمكان معًا، ليصبح نموذجًا يحتذى به في الأردن والعالم، من صبحا إلى كل أصقاع الأرض، حملت غزوة رسائل البادية، وصورتها بأمانة وإبداع، لتثبت أن الصحراء ليست مجرد أرض جرداء، بل قلب نابض بحياة الإنسان وأصالته.






