صدى الشعب – كتب: سليمان أبو خرمة
في لحظة نادرة من الوضوح القاسي، قالها رجل غزيّ لمصور صحفي، بصوت مبحوح وخائف ومتعب:
هو في حد بشوفنا يا خال؟ ولا بتصوروا لحالكم؟ خطيتكم في رقبتي.. روحوا عند ولادكم.
كلمات بسيطة، مؤلمة، تقطر دمًا، كلمات تكفي لهدم كل نظريات التضامن وحقوق الإنسان والعدالة الدولية، تكفي لكشف العار الكبير، أن غزة تُباد، تُذبح، تُحرق، والعالم ينظر، لا، ليس العالم أعمى، هو يرى، لكنه قرر أن لا يشعر، قرر أن يصم أذنيه ويكمم فمه ويدير ظهره.
لم تعد غزة بحاجة إلى صور إضافية لطفل بلا رأس، أو أم تحت الركام تحتضن جثة وليدها، لم تعد بحاجة إلى فيديوهات البيوت وهي تنهار على ساكنيها، أو على ابتسامة طفل كانت آخر ما بقي منه، كل شيء صُوّر، كل شيء وُثّق، المشهد بات واضحًا بما لا يدع مجالًا للشك، هناك شعب يُفنى، يُمحى من الوجود، والعالم يُسجل ويشارك وينتقل للخبر التالي.
السؤال إذًا لم يعد: “أين الإعلام؟”، بل: “أين الإنسانية؟”
منذ ما يقارب من عامين، وإسرائيل تشنّ حرب إبادة حقيقية على قطاع غزة، قصف بلا هوادة، حصار خانق، قتل جماعي ممنهج، تجويع، تهجير قسري، تدمير للمستشفيات والمدارس والبيوت والمساجد والكنائس، والمجتمع الدولي، بحكوماته ومؤسساته، إما شريك صامت أو متواطئ صريح.
كل هذا، ولا يزال الغزيون، بأجسادهم المحروقة وأرواحهم المنهكة، يسألون: “هو في حد بشوفنا؟”
وكأن ما يحدث لا يُقنع العالم بما يكفي، وكأن الدم الغزي يحتاج إلى لون مختلف، أو رائحة أبشع، أو شهقة أكثر فوضى، كي يُحسب له حساب.
لا توجد مجازر “تحدث في الخفاء” في غزة، كل شيء يُبث، القصف على الهواء، والدم في مقاطع الفيديو، والطفل الميت وجهه في كل منصة، وصرخات الناس في كل لغة، ورغم ذلك، لا يتحرك العالم ساكنًا، كأن موت الفلسطيني لا يثير الشفقة، لا يستحق الغضب، لا يُعدّ “خسارة إنسانية”.
هذه ليست حربًا، بل عملية تطهير عرقي، مكشوفة، بلا أقنعة، لكنها تلقى ترحيبًا بصمتٍ دوليٍّ معيب.
ذلك الرجل الذي قال: “خطيتكم في رقبتي.. روحوا عند ولادكم” لم يكن يلوم المصور، كان يخاطب كل من اختبأ، بعيداً عن الإنسانية ، كان يتحدث نيابة عن مليون ونصف مشرّد، عن آلاف الشهداء، عن وطن يُمَزّق شبرًا شبرًا.
كان يقول لنا جميعًا: أنتم تركتمونا وحدنا.
لن تُمحى غزة، لكن من سيسقط إلى الأبد هو هذا العالم، الذي أثبت أنه بلا ضمير، بلا قلب، بلا عيون ترى الحقيقة، سيكون هذا القرن شاهداً على أبشع مجزرة تم بثها مباشرًا، وسط تصفيق خافت من خلف الشاشات.
فحين يُسأل الأطفال في المستقبل:
“كيف سقطت الإنسانية؟”
سيكون الجواب: في غزة.