صدى الشعب – كتبت فوز أبو سنينة
أشعر أنني أحتضر!
أتجهز لأغادر عالماً لا أدري إن كنت آسف حقاً على تركه، أرتب أحوالي لأودع ما كان يوماً وجودي، أستقبل هذا الشعور بأسى ممزوجٍ بالراحة، لم يمر على وجودي هنا سوى أشهر، لكنها في عُرف الأعمار آلاف من السنين، أليست السنين تقاس بالآهات والأوجاع والفقد؟ كم أعطينا وكم أعطي لنا؟
لقد أعطيت الكثير، ولم آخذ شيئاً لضيق هذا الحال، فالحال عادة يضيق أكثر على من لا متسع لديه منذ البداية، أريد أن يحملني الموت، ويركض الاحتضار بجسدي و أنه عدّاءٌ فائزُ في الألعاب الأولمبية، تعال إليّ لتحملني، لماذا لا تأتي؟ يا موت! أين أنت؟ ألم تسمعني أقول لك أشعر بأنني أحتضر؟
أوووووفففف.. ما هذا؟ جلبةٌ في حضن الجلبة! ها قد أتيت، فماذا تريد مني؟ هل الموت هو بالأمر السهل برأيك؟ عليك أولاً أنْ تقدم أسبابك المقنعة للرحيل.
أسبابٌ مقنعة؟ حسناً، لا أحد يمكنه أن يتنفس في هذا المكان. ألا ترى؟ تختلط أنفاسك بسحبة الشهيق لأعداد متراصة من البشر وكأنهم خرز في عقد، كلما تحرك أحدهم، دفع الآخر نحو الاختناق، فيصبح الهواء مجموعة روائح مختلطة، تزن بميزان فتحة الأنف درجة الحياة فيك. ألا يكفيك هذا؟
لا. استمر في سرد أسبابك، فهناك من هو أحوج منك للخلاص.
تصور أنك لا تستطيع النوم في هذا المكان، فالأضلاع، أضلاعي، مسحوبةٌ على عكازات غرزت في الرمل السابح في الماء الآسن، حيث يقلق البلل الأحلام الراحلة.
حسناً وماذا بعد؟ صدّق بأنني قد رأيت ما هو أصعب من ذلك.
تريد أصعب؟ حسناً، لا يمكنك أن تضحك هنا، فالفقد قد تغلغل سرطاناً يأكل كل خلية حية في الداخل، ويبدأ بخلايا السعادة على صغرها. أتريد أصعب؟ لا تستطيع أن تتكلّم، لأن الصوت لا ترده هذه الأقمشة البلاستيكية، فيختلط بنبرات وترددات تملأ الفوضى بالفوضى.
كيف ذلك؟ لا أفهم، وماذا تفعل أنت الآن؟ ها أنت تتكلم!
أنا أهمسُ همساً! حسناً دعك من الكلام. لم يعد مهماً. تخيل أنه لا يمكنك أن تُحبَّ هنا، فقلبك مراقبٌ من آلاف الأرواح التي تدرس اتجاه نبضه على بوصلة المشاعر. لا تستطيع الاستحمام، فالماء يسبح محبوساً في قعر الأرض، والعراء هو عدو العُرّي، حتى لو تشابهت حروفهما.
الحُب! إنه إحساسٌ جميلٌ أجل، لكنه ليس سبباً مقنعاً حقاً بالنسبة لي.
الغناء إذن؟ لا تستطيع أن تغني في هذا المكان، إذ إن السلّم الموسيقي قد تقطعتْ مفاتيحه، وغابت كل نوتاته بين قتيل و جريح.
أنت تضيع وقتي! رائحة الاحتضار تملأ تلك الزوايا البعيدة، سأذهب، عندي عملٌ كثيرٌ على بعد كيلومترات قليلة.
لا لا أرجوك، أعطني القليل من الوقت بعد، القليل فقط. أنا خائف، ولا يمكنك أن تخاف هنا، فالخوف مرضٌ معدٍ يسبب انتشاره زلزالاً يهدم كلّ ما لم يتبقَ لدينا. لكننا مصابون به جميعاً بصمتٍ كاملٍ مخنوق. لا تستطيع أن تأكل في هذا المكان أيضاً، لا يوجد طعام، رغم أنه يقبع متكدساً، كما يقولون، في شاحنات كبيرة على الطرف الآخر من سياج المدينة، المدينة التي شفعت لها جنسيتها الأخرى فأكلت وشربت وشبعت فنامت.
لا طعام؟ ما هذه المعيشة؟ لا ألومك على استدعائي حقاً.
هذه ليست عيشة طبعاً. أليس هذا ما كنتُ أحاول أن أخبرك به منذ البداية؟ لكن تخيل، على الرغم من غياب هذه الحياة كما نعرفها، لا يمكننا حتى الموت هنا، مع أن تسهيلاته متوفرة ودون مقابل؛ بالقنابل والقذائف والرشاشات التي تغذي ساعات النهار والليل، ذئباً شرساً يفترس الحياة، الموت هنا سهل جداً، لكن الزحمة لا تبقي لجسدك مكاناً على الأرض أو تحتها. ثم إنه لم يعد هناك كفن تستر به جراحك، فالكفن صار رداء الحي في الغياب، لذلك طلبت مساعدتك. تفضل، قل ما تريده، فأنا أرى السؤال ينساب من حناياك.
هل أنت متأكد بأنك لست ميتاً وتعيش في جهنم؟ أنا لا أتذكر أنني قد زرتك قبلاً لكنني معذور، فذاكرتي قد تعبت من كثرة الوجوه التي غابت بين ذراعي مؤخراً.
كلّا. لأن النار تأتي بعد الموت لا قبله، أو هكذا كنت أعتقد سابقاً، ثم إن جهنم تدخلها بذنوب ارتكبتها وأنا لا ذنب لي. لا ذنب لنا جميعاً.
يا إلهي! لا طعام ولا شراب ولا نوم ولا ضحك ولا حب ولا استحمام ولا خوف ولا سعادة، الآن أنا من أصبح يشعر بالاحتضار. انتظرني، سأعود. دعني أرى كيف يمكنني مساعدتك، ربما تمكنت من إصدار تصريح خاص لك، لكن الآن عليّ أن أذهب بسرعة، شهقات طلوع الروح تناديني من بعيد. لقد تأخرت. سأعود قريباً، ربما.
لا، لا، انتظر. انتظر أرجوك. خذني معك، لا يمكنني أن أعيش هنا. أشعر أنني أحتضر على أية حال وستضطر إلى العودة لأخذي. أشعر أنني أختنق. كفى، ارحموني! يرفضني الموت، وتنبذني الحياة! ماذا تريدون مني بعد؟ ماذا فعلت لكم؟ أنا لست سوى خيمة مسكينة للنازحين في غزة!





