مرام النابلسي
محامية وكاتبة
لم تكن الخطوة التي أقدمت عليها دولة بوليفيا في الأمم المتحدة مساء الأربعاء الأول من نوفمبر من إعلان قطع علاقاتها الديبلوماسية بالكيان الصهيوني، لم تكن مجرد رد فعل على الجرائم التي ارتكبها الكيان بحق المدنيين العُزَّل في غزة، وإنما شكلت أيضاً ما يمكن اعتباره ووصفه بـ صفعة قانونية سياسية تم توجيهها بدقة وحكمة للمجتمع الدولي بكل مكوناته لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول صاحبة النفوذ والقرار، كما وُجهت أيضاً وبشكلٍ أكبر وأكثر دقة للمنظمة الأممية وفي عقر دارِها.
لقد جاء إعلان قطع العلاقات الديبلوماسية بالكيان الصهيوني في كلمة بوليفيا كنتيجة حتمية ومحسومة، ومبنية على أسس لا تحتمل افتراض غيرها، فهي من الوضوح والكفاية بمكان ألا تكن مجرد قرار انفعالي اتخذ بلحظة عاطفية غاضبة رغم وضوح لهجة العاطفة فيها، وهو ما صدَّرَ الموقف السياسي والديبلوماسي الرصين الذي اتخذته بوليفيا عبر هذا القرار ليس فقط فيما يتعلق بالأحداث الدائرة في قطاع غزة وفيما يتعلق بفلسطين، وإنما فيما يتعلق بالمجتمع الدولي كاملاً بكل وحداته السياسية ومؤسساته في المرحلة المقبلة، التي لا شك أنها سوف تكون مختلفةً عن سابقاتها، وما يؤكد هذا التصدير تبني عدداً من الدول في الساعات الأولى التي تلت الموقف البوليفي لمواقف ديبلوماسية مشابهة وإن كانت أقل حِدَّةً منه.
لقد قدم مندوب بوليفيا في حوالي سبع دقائق عرضاً مختصراً ودقيقاً لدور الأمم المتحدة ومؤسساتها ولدور القانون الدولي، ومسؤولية المجتمع الدولي القانونية والإنسانية سواء في تطبيق القانون أو في التصدي للعدوان ووقف قتل الأبرياء في غزة، وقد كان لافتاً ذلك الفرش التاريخي المبسط والمختصر والدقيق الذي قدمه حول القضية الفلسطينية، وما تخللها من تهجير قسري للشعب الفلسطيني، ومعاناته، وحرمانه من حقوقه، محملاً المسؤولية عن ذلك بكل وضوح للمجتمع الدولي الذي اعتبره مُقصراً في حماية هذا الشعب “المُعتدى عليه”، ثم عقد مقارنةً ذكيةً بين المصير الذي حدده المجتمع الدولي للمُعتدى عليه، وبين مصير المُعتدي الذي تمت مكافئته ومنحه دولة!! كما استعرض ما أسماها “الهجمات العشوائية” التي شنها العدوان الصهيوني على غزة، وما خلفته من دمار وما خلفته من شهداء بلغ عددهم ثمانية آلاف شهيد (حتى تاريخ إلقاء الكلمة، وهو الرقم الذي أرتفع إلى ما يزيد عن العشرة آلاف حتى تاريخ كتابة هذا المقال).
إن بوليفيا التي حسمت موقفها من الكيان الصهيوني وعدوانه بسبب “إجرامه” كما ورد على لسان مندوبها، لم تكتفِ فقط بموقفها الحاسم هذا؛ وإنما دعت المجتمع الدولي أيضاً لحسم موقفه، بعد أن شككت بصدقية الرواية الإسرائيلية نافيةً إمكانية أن يكون موقف “إسرائيل” هو موقف دفاع عن النفس، حيث أنها هي التي ارتكبت الجرائم والمجازر، ويجب محاكمتها أمام القانون الدولي، فقد جاء القرار البوليفي بقطع العلاقات الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني، منسجماً تماماً مع هذا التمهيد الذي لا يمكن لعاقلٍ غير منحاز أن يكذب ما جاء فيه، أو يشكك بصحته ودقته قانونياً وسياسياً وإنسانياً.
لقد عبرت بوليفيا عن هذا الموقف الحاسم؛ بأقصى ما يمكن التعبير عنه ديبلوماسياً، حيث أن قطع العلاقات الديبلوماسية بين الدول سواء كان من طرفين أو من طرف واحد، يعتبر من أخطر القرارات التي يمكن أن تتخذها الدول، ويأتِ بدرجةٍ متقدمة على سلسلة من الإجراءات التي يمكن أن تُتخذ، حيث باستطاعة الدولة مثلاً طرد المبعوثين المتواجدين على أرضها، أو استدعاء ممثليها دون الحاجة لقطع العلاقات الديبلوماسية، أما هذا الأخير فيعتبر القرار الأشد والأخطر فيما بين هذه الإجراءات، إذ أنه يعبر بالأساس عن تدني مستوى العلاقات الديبلوماسية بين الدول المعنية والذي قد يؤدي إلى بروز الخلافات والأزمات التي قد تتطور إلى نشوب الحروب والنزاعات المسلحة فيما بينها، كما يُعبِرُ عن اختلافٍ كبير في المواقف السياسية بين تلك الدول، وبشكل عام فإن قطع العلاقات الديبلوماسية معناه من الناحية العملية “وضع حدود للعلاقات الديبلوماسية بين الدول المعنية”.
ومن الجدير بالذكر أن أسباب اتخاذ الدول لهذا القرار هي أسباب جادة، تتراوح بين الأسباب القانونية والسياسية، ومن بين الأسباب القانونية انتهاك حقوق الدول والقانون الدولي، أو تعرض الدول لاعتداءات مباشرة تمس أمنها وسلامة أراضيها، أو التعرض بسوء للبعثات الديبلوماسية أو أحد أفرادها، أو رعايا الدولة أو أموالها أو مصالحها، أو التدخل في شؤونها الداخلية، أو انتهاك المعاهدات والاتفاقيات الدولية، كأسباب منفردة أو مجتمعة.
ما الأسباب السياسية فمنها ما يتعلق بالمساس بكرامة الدولة أو ما يسمى بـ “اعتبارات الكرامة المجروحة”، ومنها ما يتعلق باختلاف الرؤى السياسية، ورغم أن بوليفيا تمتلك الأسباب السياسية لقطع العلاقة الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني بسبب التباين في الرؤى السياسية، وقد استخدمت هذا السبب للتعبير عن احتجاجها على العدوان الصهيوني أمام المجتمع الدولي، وعن سخطها ومحاولة الضغط عليه لاتخاذ موقف حاسم منه، وهذه كلها أسباب يقرها العرف القانوني الدولي، إلا أنها بالرغم من ذلك ليست في صراع مباشر مع الكيان الصهيوني، ولم تتعرض لاعتداء مباشر منه بما يحقق أحد الأسباب القانونية، لكنها – أي بوليفيا – استخدمت بذكاء مرة أخرى المبدأ العام الذي يعتبر أن أي انتهاك لحقوق الدول وللقانون الدولي يعتبر سبباً جاداً ومُحِقاً لقطع العلاقات الديبلوماسية، وهذا ما عبر عنه مندوبها في نهاية كلمته مسبباً قطع العلاقات الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني بأن بوليفيا دولة تحترم القانون الدولي، ولأنها كذلك فإنها قررت قطع علاقاتها الديبلوماسية مع “إسرائيل” التي تنتهك ذات القانون.
إن بوليفيا التي جمعت بين الأسباب القانونية والسياسية لتبرير قطع علاقاتها الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني، والتي ربطت بين التاريخ المخزي للكيان الصهيوني وواقعه الحالي الذي بلغ فيه إجرامه ذروته، وضعت المجتمع الدولي ومؤسساته بكل ذكاء وحنكة أمام مسؤولياته القانونية والسياسية والأخلاقية والإنسانية، داعية إياه التوقف عن دعم هذا الإجرام والصمت عنه، فإن كانت دولة بوليفيا قد احترمت القانون الذي وضعته المنظمة الأممية، فالأوْلى بهذه الأخيرة وبمؤسساتها أن تحترمه، قبل أن يصف مندوبُها حال مجلس الأمن الدولي بـ “الشلل”، وكأنها تقولُ لها: “من فمكَ أدينُك”، كما شددت على أن الأمم المتحدة باستطاعتها أن توقف هذا الاعتداء وهذه الكارثة، وأن على المجتمع الدولي إجبار “إسرائيل” على الانصياع لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولم تغفل أيضاً الدفع باتجاه السماح بانضمام فلسطين كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة.
ليست هذه المرة الأولى التي تقطع فيها بوليفيا علاقاتها الديبلوماسية مع الكيان الصهيوني، فقد فعلتها من قبل في عام 2009، واستمر هذا القطع حتى عام 2020، كما أنها أول دولة في العالم تقطع علاقاتها معه، لكنها وإن كانت ليست المرة الأولى، غير أن الظروف التي يمر بها العالم اليوم من هبوط بعض الأقطاب وصعود بعضها الآخر مختلفة تماماً عما كانت عليه عام 2009، كما أنها مختلفة على الصعيدين الداخلي والخارجي للكيان الصهيوني، بل حتى على صعيد المقاومة الفلسطينية ذاتها.
لقد كان هذا القرار وهذه الكلمة “الدرس” الذي وجهته بوليفيا للعالم، ولمنظمات المجتمع الدولي، بوليفيا التي حرصت على أن تخاطب في كلمتها ليس فقط الدول والمنظمات بل الشعوب أيضاً، نَبَّهَتْ إلى أن حرية فلسطين ليست قضية تخص الشعب الفلسطيني وحده، بل إنها قضيةُ احترام الإنسان في كل أرجاء المعمورة، في محاولةٍ منها لمخاطبة الضمير الجمعي الإنساني العالمي، الذي عليه أن ينتصر للحق، وأن يقف مع الشعوب التي تتطلع لتمكينها من الحق في تقرير مصيرها، والتصدي لمحاولة النيل من إنسانيتها في معركة هي في الحقيقة معركةُ كل إنسان على وجه البسيطة.
وكما كانت بوليفيا منسجمةً في كلمتها مع دوافعها ومع الأسباب القانونية والسياسية لقرارها ومع القانون الدولي ومع التاريخ والحاضر، وكما ساندت القضية الفلسطينية بالموقف والسياسة والقانون كما لم يساندها أحد، فإنها لم تنسَ أيضاً واقعاً مريراً فرضه صمت المجتمع الدولي ومؤسساته، فوجهت في الختام رسالةً للشعب الفلسطيني أن: “لستم وحدكم بوليفيا معكم وشعوب العالم معكم”، في أقوى موقفٍ تتخذه دولةٌ بمفردها في هذا الظرف حتى اللحظة، وكأنها تقولُ ضمناً: أيها الشعب الفلسطيني إن كان المجتمع الدولي ومؤسساته قد خذلكم، فـ بوليفيا الدولة بكل مكوناتها معكم، وشعوب العالم التي لها الحق في رسم سياسة دولها، هذه الشعوب بصرف النظر عن مواقف أنظمتها معكم.. إنَّ معكم دولة وشعوب