فوضى التصريحات

لا يحضرني كطبيب عملَ لسنوات طويلة في مجال الرعاية الصحية، بأن العالم قد سبق وأن شهد حالة من الخلاف، ومن الانقسام في إبداء الرأي والتصريحات حول شأن صحي مهم، كما يجرى الآن حول فيروس كورونا؟
وهذا الجدل الدائر حول الجائحة والذي يشمل كافة جوانبها بدءًا من التشكيك بحقيقة وجودها، وبنظرية المؤامرة التي رافقتها منذ بداية انتشارها، وجدوى الإجراءات المتخذة لمحاربتها والتصدي لها، ثم ما لبثت ظهرت قضية المطاعيم، والتي لم تسلم أيضاً من نظريات التشكيك والتخويف.
وربما كان لتعدد الآراء والاجتهادات المتناقضة حول طبيعة الفيروس وطرق مكافحته، والوقاية منه، والتي كانت تصل إلينا عبر شاشات التلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي من قبل مختصين وأكاديميين، دور كبير في اتساع الهوّة. والتي تركت المتلقي وحيدا، وفي حيرة من أمره يتخبط في بحر من المعلومات الملتبسة، بل وخلقت التربة الخصبة لنمو نظرية المؤامرة ومتبنيها ومشجعيها للحيلولة دون اتخاذ خطوات جادّة وحازمة للحدّ من الوباء والسيطرة عليه.
وكنتيجة طبيعية لفقدان المواطنين ثقتهم بالمسؤولين والسياسيين، فقد حاولوا أن يجدوا ملجأً لهم بالرجوع إلى المصادر الطبية والعلمية الموثوقة، علّهم يجدون ضالتهم ويحصلون على الإجابات المحكومة للعلم والمنطق. لكن الأطباء والعلماء وجدوا أنفسهم فجأة في غير بيئتهم التي اعتادوا العمل فيها، وأجبروا أن يخوضوا غمار معركة لم يتهيأوا أو يعدوا لها العدة، فكليات الطب والبرامج التدريبية التي اخضعوا لها، لا تلتفت إلى تدريب الطبيب على استخدام أدوات التواصل، وفن إيصال الرسائل الصحيّة عبر قنوات الاتصال المناسبة بتوظيف المعلومة الدقيقة واستخدام العبارات المنمقة والرصينة. مما يتسبب في وقوع هؤلاء في المحظور خاصة في مواجهة إعلاميين متمرسين لا تنقصهم الخبرة.
وبطبيعة الحال، فإن المعلومة الطبية تنحو إلى التعقيد، وقد تكون حمّالة أوجه مختلفة، ويصعب في بعض الأحيان ترجمتها من لغة المجلات العلمية المتصفة بالجمود، الى لغة يسهل فهمها من قبل غير المختصين من العامة. كما أن هناك فرقا شاسعاً، قد لا نلحظه، بين نقل المعلومة الصحيّة وإبداء الرأي بشأنها.
وفي بلدنا بدت الأمور أكثر تعقيداً، حيث تعددت اللجان المعنية بمتابعة شؤون الجائحة وبالتالي تعدّدت الآراء والاجتهادات، وظهر الى العلن الاختلاف والتباين في وجهات النظر بين هذه اللجان، بل بين أعضاء اللجنة الواحدة، مُغفلين أبسط أبجديات العمل العام، حيث يتنازل الشخص تلقائيا عن حقه في ابداء رأي علني مخالف لرأي الجهة التي ينتمي اليها.
وفي الواقع فإن جُلّ المسائل الصحيّة تأخذ طابعا فنيّا، معقدا، ويصعب فهم أساسها العلمي، بحيث إن واحدنا يصاب بالارتباك وعدم التيقن جراء نتائج الدراسات المتناقضة ظاهريا، والتوصيات الصحيّة دائمة التغيير. وبما أن معرفتنا بالأمراض، وفهمنا لها، ولأسبابها يتغير باستمرار، فإن رسائلنا التوعوية يجب أن توافق هذه التطورات، وأن تتسم بالوضوح والسلاسة والموضوعية.
لقد أسفر انتشار وسائل الإعلام المستقلة وغير المنتظمة في تعزيز الشك لدى الجمهور، وفقدانه الثقة بالعلوم وبمصادر الإعلام الرسمية، وساهم في إيجاد بيئة خصبة لانتشار الإشاعات والمعلومات المثيرة للجدل.
وحتى نسترد ثقة المواطن بالرسائل الصحيّة من جديد، لا بدّ لنا من العمل على إعداد وتدريب ناقلي هذه الرسائل على طرق تصميمها باحترافية عالية، والتأكد من ملائمة المحتوى الإعلامي لهذه الرسائل للقنوات الإعلامية التي ستقوم ببثّها بما يتناسب مع طبيعة الجمهور المتلقي لهذه الرسائل.

أخبار أخرى