صدى الشعب – كتبت فريهان سطعان الحسن
لم أكن أريد الكثير. قرص صغير يحمل اثنتي عشرة أغنية فقط. تعلقت بها طويلا، كأنها صندوق حكايات. أعيد سماعها مرة وراء مرة، ثم أتركها، وأعود إليها من جديد، لأجدها كما تركتها؛ نابضة بالحنين، تستحضر أوقاتا لا يبهت وهجها.
تجولت في أزقة وسط البلد، حيث اعتدت أن أجد ما أبحث عنه في محال بيع الكاسيتات. كانت تلك الأماكن تحمل بريقا استثنائيا في زوايا المدينة، لكنني اليوم لا أجد سوى أبواب أغلقت أو تبدلت رفوفها وبضائعها، وكلما سألت، جاء الرد ذاته: “أنت قديمة جدا، الدنيا تغيرت، والسيارات الآن تعتمد البلوتوث وUSB، فيه أكثر من 500 أغنية!
أدرك أن كل شيء تغير، لكنني أبحث عن طقوس صغيرة منحتني الرضا والفرح في زمان بعيد. أردت أن أتنقل بين أغنيات أعرف ترتيبها وأحفظ كلماتها كما لو كانت جزءا مني ومن ذكرياتي. لكن محاولاتي باءت بالفشل.
“لم نعد نصنع تلك الأقراص”؛ قالها البائع بحسم محاولا إقناعي بالتخلي عن عادتي القديمة. أهز برأسي، لكن داخلي كان يرفض. ليست التقنية ما أبحث عنه، ولا الكثرة او تعدد الخيارات؛ بل ذلك الإحساس الذي تحمله الأشياء البسيطة التي تشعرني بأنني جزء من زمن لم يرحل بعد.
قبل سنوات، كانت محال بيع الألبومات الغنائية أشبه بمحطات موسيقية نابضة بالحياة. من مكبرات الصوت عند أبواب المحال، كانت الأغنيات تعبر الأرصفة، تجذب المارة للتوقف. كلما أعجبتنا أغنية، نطلب إضافتها إلى قائمة خاصة تُجمع لنا بعناية.
داخل تلك المحال، كان العامل بخبرته الموسيقية يعرف ما نحتاجه قبل أن نبوح. “بدك أغاني حزينة ولا فرايحية؟”. يسأل بابتسامة واثقة، وكأنها وصفة لتعديل المزاج. بلحظات ينسق لنا قائمة غنائية تحاكي أحاسيسنا وتقرأ قلوبنا، لنبحر في عالم من الذكريات الصامتة التي لا تنتهي.
أتذكر صوتنا الطفولي حين كنا نتسابق، أنا وإخوتي وأقاربنا، لتسجيل أغان أو رسائل مضحكة على أشرطة الكاسيت. كان لكل واحد منا لحظته الخاصة، نتباهى بمن يملك الصوت الأجمل، ثم نجتمع لنستمع إليها مرارا، ونضحك ونتخيل أنفسنا نجوما ومشاهير.
لم يكن هناك بيت يخلو من أشرطة الكاسيت، حتى عندما تخذلنا ويتعطل شريطها، كنا نلجأ لطلاء الأظافر لإصلاحه، وكأننا نعيد إليه الحياة بلمسة من حبنا. تلك الأشرطة لم تكن مجرد وسيلة تسجيل؛ بل كانت اشبه بصندوق صغير يحتفظ بضحكاتنا وأحلامنا الأولى.
لكن الزمن يركض بخطوات متسارعة، ونحن مضطرون لملاحقته في كل اتجاه، لنصبح محرومين من حق الاحتفاظ بما نحب، ولتنتزع منا تفاصيل دافئة كانت جزءا من حياتنا.
جيل كامل نشأ في زمن يتسارع فيه التطور التكنولوجي بشكل غير مسبوق، وقد لا يعنيه ما أكتبه هنا، فهو لم يدرك كيف كانت الأشياء بسيطة ذات يوم، وكيف كان للجمال معنى أعمق وللأغنية حكايات وللموسيقا سحر يصعب الشفاء منه. لا ألوم هذا الجيل؛ فهو ابن عالمه، ولا بد له من الانغماس فيه، بعيدا عن تفاصيل صغيرة ربما كانت تحمل في طياتها بساطة الحياة ودفء اللحظات.
لكن، نحن، أبناء الجيل الماضي، ما تزال التفاصيل الصغيرة البسيطة تمدنا بالسحر غير المفهوم، لذلك، من حقي أن أحتفظ في صندوقي الكبير بالعديد من أشرطة الفيديو وكاسيتات الأغاني، بأغلفتها وصورها، بالأقراص المليئة بالأغاني التي كتبت عليها اسم ورقم كل أغنية بكل دقة.
لن أستطيع التخلص منها أبدا، حتى وإن لم يعد لها مكان، فهي تعزف لحنا خاصا في قلبي، تجعله يبتسم في لحظة، ويستشعر الشجن والحزن في لحظة أخرى. هكذا هي التفاصيل الصغيرة المؤثرة، قادرة على تصبغ أيامنا بالشوق واللهفة، بينما تداهمنا سحابات الحزن والحنين إلى ما أصبح اليوم مجرد ذكرى!.
لم أطلب الكثير، هي تفاصيل صغيرة، لكنها “أثقل” مما تخيلت!