صدى الشعب- أسيل جمال الطراونة
في اليوم العالمي للأشخاص ذوي الإعاقة، يؤكد اختصاصي علم النفس الإكلينيكي الدكتور حذيفة الرحاحلة أن النقاش حول الإعاقة بحاجة إلى الانتقال من لغة الرعاية التقليدية إلى رؤية أشمل تضع الصحة النفسية وجودة الحياة في مركز عملية الدمج والتمكين.
،كما يشير الرحاحلة أن التجارب العالمية أثبتت أن غياب الأعراض أو توفر الخدمات وحده لا يكفي؛ إذ إن جودة الحياة تقوم على منظومة متكاملة تتدرج من البيئة الداعمة إلى السياسات المتقدمة، ومن الصحة النفسية السليمة إلى الشعور بالقيمة والانتماء.
أولًا: الصحة النفسية… الركيزة المخفية للتمكين الحقيقي
يرى الرحاحلة أن كثيرًا من التحديات التي يواجهها الأشخاص ذوو الإعاقة لا ترتبط بالإعاقة ذاتها، وإنما بما يحيط بهم من عوائق اجتماعية وإدراكية ، ومن هنا، تبرز الحاجة إلى إعادة النظر في برامج الدعم التي تركز غالبًا على الجوانب الطبية أو التعليمية، بينما تُهمَل الصحة النفسية رغم كونها الأساس الذي يستند إليه أي تمكين فعلي.
ولتوضيح ذلك، يبيّن الرحاحلة أن الوصمة الاجتماعية تشكّل أولى العقبات، إذ يخشى كثيرون من “وصمتين” معًا: وصمة الإعاقة ووصمة الاضطرابات النفسية، مما يحدّ من طلب الدعم. وإضافة إلى ذلك، تؤدي العزلة الاجتماعية الناتجة عن ضعف المشاركة في التعليم والعمل والفضاءات العامة إلى تراجع الشعور بالجدارة وتزايد أعراض القلق والاكتئاب.
وفي السياق ذاته، تعاني أسر الأشخاص ذوي الإعاقة من مستويات مرتفعة من الضغط النفسي والاحتراق نتيجة غياب الخدمات المجتمعية الشاملة، الأمر الذي ينعكس على صحة جميع أفراد الأسرة.
وانطلاقًا من ذلك، يشدد الرحاحلة على ضرورة تبني منظومة دعم نفسي–اجتماعي تركّز على تمكين الفرد، وإعلاء صوت الأسرة، وتعزيز وعي المجتمع، بدل الاقتصار على الجلسات العلاجية التقليدية غير المتكاملة.
ثانيًا: جودة الحياة… معيار جديد لقياس نجاح البرامج
ويؤكد الرحاحلة أن تقييم البرامج الموجهة للأشخاص ذوي الإعاقة لم يعد يعتمد على عدد المستفيدين أو نوع الخدمات المقدمة فقط، وإنما بات يقاس بمدى تحسين جودة الحياة في محاورها المختلفة، مثل الصحة، والعلاقات الاجتماعية، والاستقلالية، والتعليم، وفرص العمل.
ومن هذا المنطلق، أصبحت جودة الحياة معيارًا عالميًا لقياس مدى نجاح الدول والمؤسسات في تحقيق الدمج، وهو ما يتطلب، وفق الرحاحلة، بنية تحتية شاملة تراعي الوصول والتنقل، وسياسات تعليمية تتوافق مع احتياجات المتعلمين ذوي الإعاقة بعيدًا عن الدمج الشكلي، إضافة إلى فرص عمل لائقة توفر الاستقرار والشعور بالقيمة المهنية. كما يشير إلى أهمية إدماج برامج الرعاية النفسية داخل المدارس وأماكن العمل بدل الاقتصار على الاستجابة اللاحقة للمشكلات.
ثالثًا: محاور مبتكرة في الدمج والتمكين… جيل جديد من السياسات
ومع تغيّر احتياجات المجتمعات، يدعو الرحاحلة إلى تبني نماذج جديدة للدمج تعتمد على الابتكار. ويطرح في هذا الإطار عدة توجهات حديثة، أبرزها:
الدمج 2.0: وهو دمج قائم على المشاركة، لا يكتفي بوجود الأشخاص ذوي الإعاقة في البيئة العامة، بل يمنحهم دورًا فاعلًا في التخطيط وصناعة القرار والتمكين النفسي كجزء من التمكين الاجتماعي: إذ لم يعد التمكين مجرد تدريب أو تعليم، بل أصبح يشمل تنمية مهارات التعبير، والثقة بالنفس، وإدارة الانفعالات، وتطوير الهوية الإيجابية والتكنولوجيا كجسر للدمج: حيث تشكل التقنيات المساعدة من تطبيقات وأدوات ذكية وسيلة فعالة لتعزيز الاستقلالية وتحسين التعلم وزيادة المشاركة الرقمية والمهنية والمدن الشاملة: وهو مفهوم عالمي يستهدف بناء بيئة حضرية تعترف بالتنوع البشري وتتيح خدمات وأنشطة عامة متاحة للجميع، بما ينعكس مباشرة على جودة الحياة ايضاً دعم الأسرة كاستراتيجية وطنية: إذ لم تعد الأسرة مجرد جهة مساندة، بل أصبحت جزءًا جوهريًا من منظومة التمكين من خلال برامج التدريب والدعم النفسي.
رابعًا: نحو رؤية مستقبلية… من الإعاقة إلى التنوع الإنساني
ويختتم الرحاحلة رؤيته بالتأكيد على أن العالم يتجه نحو فهم جديد للإعاقة يقوم على اعتبارها جزءًا من التنوع الإنساني، لا حالة بحاجة إلى معالجة. وتقوم هذه الرؤية على احترام الاختلاف، ومنح الفرص بدل تكييفها، وتمكين الصوت قبل تمكين الحركة، ووضع الصحة النفسية في قلب السياسات بدل أن تكون ملحقًا لها.
ويوضح الرحاحلة أن تعزيز الصحة النفسية وجودة الحياة للأشخاص ذوي الإعاقة ليس رفاهية، بل هو أساس الدمج الحقيقي. فلا يمكن بناء مجتمع شامل دون رؤية إنسانية عميقة تستند إلى سياسات متقدمة، ودعم نفسي واجتماعي، وتكنولوجيا مبتكرة، وتمكين للأسرة، وتغيير في الثقافة المجتمعية. إنها رحلة تبدأ بالوعي وتمتد نحو مستقبل يصبح فيه التنوع قوة، والدمج قيمة ثابتة، وجودة الحياة حقًا للجميع دون استثناء.






