أعود اليوم لساحة الكتابة الصحفية والعود أحمد بعد غياب قسري لفترة على قصرها كأنها السبع العجاف، ذلك أن أصعب ما يمكن أن يواجه الإنسان هو أن يوضع بين خيارين، إما أن يتمكن من التعبير عن رأيه في الشأن العام قولاً وكتابة دون قيود أو أن يدفع ثمن ذلك من مصدر رزقه ومستقبله الوظيفي.
من الصعب أن يقبل الانسان تقييد حريته في التعبير تحت أي مسوّغ ومبرر خاصة في زمن التحولات الكبرى التي يعيشها العالم الذي أضحى فعلاً قرية صغيرة عنوانها الأكبر الحرية أولاً وأخيراً.
اعتاد الناس في بلدنا على التعبير عن آرائهم ومواقفهم دون قيود وكما كفل ذلك الدستور الأردني، وهو أعلى وأهم وثيقة تحدد الحقوق والواجبات، وحتى في المراحل التي استدعت فيها الظروف والتحديات الخارجية في حقبة زمنية أن تفرض الاحكام العرفية كان بلدنا الاستثناء والأفضل في حرية التعبير ذلك أن حق الناس مقدّس في قول كلمتهم، وهذه مأثرة من مآثر الحكم الهاشمي الرشيد منذ قيام الدولة قبل مائة عام وهو مستمر ويتعزز.
أعود للكتابة في هذا المنبر المحترم «الغد» بعد انقطاع لما يقرب الشهر، وهو أمر كان خارجاً عن إرادتي وإرادة الصحيفة التي تفهمت ذلك وأكدت أن زاويتي ستظل متاحة لحين عودتي؛ إذ ارتأت الجهة الحكومية التي انتقلت للعمل فيها معاراً التوقف عن الكتابة في الصحافة أو الظهور على وسائل الاعلام المحلية والعربية والدولية بالرغم من أن ظهوري الإعلامي كان دائماً في سياق الدفاع عن الدولة الأردنية وهو ما أؤمن به دائماً وسأظل عاملاً عليه ولن أضعه في مجال المفاضلة مع أي وظيفة مهما علا شأنها ومميزاتها المعنوية والمادية.
هذا ليس هجوماً ولا عتباً على أحد فأنا أفهم وأقدر وأحترم أن من حق بعض المؤسسات أو الجهات المستقلة أن تنوء بموظفيها عن الخوض في الحياة العامة إذا تشكلت لديها قناعة أن هذا يؤثر على عملها وإن كان هذا الأمر يمكن ضبطه من خلال منح الموظف الحق في التعبير بصفته الشخصية دون الإشارة لعمله الرسمي من قريب أو بعيد.
تتفرد بعض المؤسسات في منع العاملين لديها من التعبير عن رأيهم وإبداء موقفهم من القضايا العامة، وهو أمر وإن كان محكوما بالقانون والأنظمة التي نحترمها إلا أنه يستحق المراجعة والمعالجة، ففي الوقت تتجه فيه البلاد وبرغبة ملكية قاطعة لتعزيز مناخات الحرية والحق في التعبير وفتح آفاق العمل السياسي والحزبي وتطوير التشريعات بما يكفل توسيع قاعدة المشاركة السياسية.
إن علو شأن أي وظيفة وحضورها في علم الحياة وتنافس الناس على الحصول عليها وكأنها الجنة المبتغاة لا تكاد تلمس فضاء الكلمة وبريق حضورها. ألم يكن قرآن الله كلمة وفي الأثر أن أول مخلوق هو القلم؟
في البدء كانت الكلمة والكلمة نور وبعض الكلمات قلاع شامخة للحرية والمسؤولية وسنبقى مؤمنين بأن الكتابة والتعبير المسؤول مدخل أساسي للحرية وهي قيمة مقدسة لا تعادلها قيمة أخرى.