صدى الشعب – كتب: فيصل تايه
في مشهد يوجع الضمير المهني، يجبر موظفين قضوا “ثلاثين عاما” في خدمة الدولة على مغادرة مواقعهم بينما ما زالوا في ذروة عطائهم، خبرة متراكمة، ومعرفة استراتيجية تهدر فجأة، وقدرات قيادية تضيع دون سبب وجيه ، فهذا الواقع، الذي شكل إجحافاً صارخاً بحق خبرات وطنية ثمينة، قد يشهد تحولاً قريباً ، بعد أن تناقلت وسائل الاعلام خبر أعلان وزير العمل “خالد البكار” أن الحكومة تدرس تعديلاً لإلغاء إنهاء خدمات الموظفين بعد ثلاثين عاماً من الخدمة ، ما يشكل صرخة عدالة مهنية وإنسانية، ورسالة واضحة بأن الدولة تدرك أن الخبرة الحقيقية لا تقاس بالزمن فقط، بل بالقيمة التي يضيفها الموظف يومياً .
القرار الحالي “الساري” الذي اقرته الحكومة السابقة يفرض التقاعد بعد “ثلاثين سنة خدمة” والذي كان في كثير من الحالات إهداراً صريحاً لرأس المال البشري ، فالكثير من الموظفين قضوا عقوداً في تقديم العطاء والكفاءة يجبرون على المغادرة، تاركين وراءهم فجوة معرفية ومهارية يصعب سدها بسرعة، وفقداناً لا يمكن تعويضه بسهولة ، فهؤلاء هم خزان خبرة وطنية ورأس مال بشري استراتيجي، قادرون على قيادة الفرق، وإرشاد الأجيال الجديدة، وحل المشكلات المعقدة التي تواجه المؤسسات الحكومية يوميا ، وإن سحبهم من مواقعهم في الوقت الذي تكون فيه قدراتهم في ذروة عطائها يمثل إهداراً لا مبرر له، ويضع الدولة أمام تحديات غير محسوبة.
إلغاء قاعدة هذا القانون يعني أن الموظف سيظل قادراً على العطاء حتى سن التقاعد الوجوبي الفعلي ، والذي يحتاج الى تعديل كما في دول العالم المتقدمة، ما يتيح للمؤسسات الحكومية استقراراً مستداماً ، واستفادة مثلى من الخبرات، وتعزيز جودة الخدمات، وضمان نقل المعرفة بين الأجيال ، فالموظف الذي لم يستنفد عطاؤه بعد ثلاثين سنة خدمة، والذي يمتلك القدرة على الابتكار والتفكير الاستراتيجي والقيادة، يجب ان لا يجبر بعد الآن على التوقف بسبب قاعدة زمنية جامدة ، فهذا القرار، “إن أُقر”، سيشكل خياراً استراتيجياً يضع الكفاءات المتميزة في قلب العمل الحكومي، ويحول دون ضياع خبرات وطنية ثمينة، ويعزز قدرة الدولة على مواجهة التحديات المستقبلية بكفاءة وحكمة.
الفائدة تتجاوز الموظف أو المؤسسة، إذ تمتد لتشمل المجتمع بأسره ، فاستمرار الموظفين الأكفاء في مواقعهم يرفع جودة الخدمات، ويزيد من كفاءة إدارة الموارد، ويقلل الخسائر المرتبطة بفقدان الخبرات أو تدريب موظفين جدد لسد فجوات فجائية، كما أنه يخلق بيئة عمل تحفز على الإنتاجية والالتزام، ويؤكد على أن العدالة الوظيفية هي ركيزة أساسية لاستدامة الأداء المؤسسي ، ما يعكس وعي الحكومة العميق بأهمية الاستفادة القصوى من القدرات الوطنية، خصوصاً في وقت تتصاعد فيه التحديات، وتحتاج فيه كل مؤسسة حكومية إلى رؤى متعمقة وكفاءات عالية لضمان استمرارية الأداء وجودة اتخاذ القرار.
ان التساؤل الذي يفرض نفسه : لماذا يجبر الموظف الذي ما زال قادراً على العطاء، والذي يمتلك تجربة ومعرفة فريدة، على المغادرة بينما يمكن الاستفادة منه في مواقع قيادية أو حيوية؟ فالتقاعد المبني على عدد سنوات الخدمة فقط لا يعكس الواقع المهني ولا القدرة الفعلية للموظف على المساهمة ، بل إنه ظلم للخبرة، وإهدار لرأس المال البشري، وإشارة إلى قصور النظام في التعامل مع الكفاءات الاستثنائية، وهو ما يجعل أي تعديل قادم ضرورة استراتيجية، لا خياراً إدارياً عابراً .
ما طرحه وزير العمل خالد البكار من تعديل إداري متوقع ، يعتبر تصحيح لمسار العدالة الوظيفية واستثمار فعلي للموارد البشرية الوطنية، وتأكيد على أن القدرة على العطاء لا تقاس بعدد السنوات وحدها ، فالقرار سيكون خطوة فارقة نحو استدامة الخبرات، ورفع كفاءة الأداء، وضمان أن تبقى المؤسسات الحكومية قوية ومرنة، مستفيدة من كفاءات متقدمة، وقادرة على مواجهة المستقبل بثقة واستقرار، مع الحفاظ على الخبرات التي لا يمكن تعويضها بسهولة.
واخيرأً فان هذا التعديل المحتمل يرسل رسالة قوية مفادها ان نهج حكومة دوله الدكتور جعفر حسان يشير الى أن الدولة تدرك قيمة موظفيها، وأنها مستعدة للاستثمار في خبراتهم، وأن العطاء ليس مجرد وظيفة تنتهي عند حد زمني، بل رحلة مستمرة تتوج بالإنجاز والكفاءة والتفاني في خدمة الوطن ، فالقرار قد يعيد صياغة مفهوم الإدارة الحكومية، ويضع العدالة والمهارة والخبرة في صميم سياسات الموارد البشرية، ليصبح الموظف عنصر محوري في بناء الدولة واستدامة مؤسساتها ومواجهة تحديات المستقبل بذكاء وكفاءة ، فذلك تحد ومكسب في الوقت ذاته ، اذا ان القدرة على تحويل الكفاءات الوطنية من عبء محتمل إلى قوة استراتيجية، تصنع فرقاً حقيقياً في مستقبل الدولة.






