صدى الشعب – راكان الخريشا
في ظل الحراك السياسي الذي يشهده الأردن، تبرز الأحزاب السياسية كأحد أهم أركان عملية التحديث والإصلاح الوطني الشامل، التي تقودها الدولة بإرادة ملكية واضحة تهدف إلى تعزيز المشاركة الشعبية وترسيخ الحياة الحزبية البرامجية، ومع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية المقبلة، تزداد الحاجة إلى قراءة واقعية لدور الأحزاب في المرحلة الراهنة، ومدى قدرتها على ترجمة التشريعات الجديدة إلى فعل سياسي مؤثر يتلمّسه الشارع الأردني.
وفي هذا السياق قالت الدكتورة في العلوم السياسية، صفاء الصمادي، إن الأحزاب السياسية تلعب في الأردن دورًا محوريًا ومتناميًا في عملية التشبيك والتفاعل بين الهيئة العامة وصنّاع القرار في مؤسسات الدولة، وذلك ضمن إطار تعزيز المشاركة السياسية الدورية والمستدامة للمواطنين، على أسس برامجيّة ووطنية واضحة تعكس رؤية الدولة الحديثة في إشراك الجميع في صياغة المستقبل، فالأحزاب اليوم لم تعد مجرد أدوات انتخابية عابرة، بل أصبحت منصات وطنية فاعلة لتأهيل الشباب والمرأة وتمكينهم من الانخراط في مواقع صنع القرار، ضمن ضمانات تشريعية انبثقت عن مخرجات لجنة تحديث المنظومة السياسية عام 2022، والمتمثلة في قانوني الانتخاب والأحزاب السياسية اللذين مهّدا الطريق أمام مرحلة جديدة من العمل الحزبي القائم على التعددية، والمشاركة، والمسؤولية الوطنية.
وتابعت الصمادي قد شكّلت تلك التشريعات نقطة تحوّل في المشهد السياسي الأردني، إذ وضعت أسسًا متينة لبناء حياة حزبية حقيقية قائمة على البرامج والرؤى لا الأشخاص والمصالح. فاليوم، باتت الأحزاب مطالبة بترجمة هذه التشريعات إلى واقع ملموس من خلال بناء هياكل تنظيمية قوية، وتفعيل أدوات التواصل مع الشارع، وإطلاق برامج سياسية واقتصادية واجتماعية تنبض باحتياجات المواطنين وتعكس روح الهوية الوطنية الجامعة، ومع أن الأردن قطع شوطًا مهمًا في مسار التحديث السياسي، إلا أن الأحزاب لا تزال تواجه مجموعة من التحديات التي تحدّ من قدرتها على جذب الشباب للمشاركة السياسية الفاعلة، ويأتي في مقدمة هذه التحديات العامل الاقتصادي الذي يشكل عائقًا رئيسيًا أمام انخراط الشباب في العمل الحزبي، إذ يعيش الكثير منهم ضغوطًا معيشية تجعل السياسة أولوية مؤجلة في ظل البحث عن فرص العمل والاستقرار، وكما أن التحديات الثقافية والاجتماعية لا تزال تلقي بظلالها، وإن كانت بدأت تتراجع تدريجيًا بفضل ارتفاع منسوب الوعي الجمعي لدى المجتمع الأردني بأهمية التعددية السياسية ودور الأحزاب في النهوض بمؤسسات الدولة وتعزيز المسار الديمقراطي.
وأشارت الصمادي يعبّر كثير من الشباب عن رغبتهم في رؤية برامج حزبية أكثر واقعية وتعبيرًا عن قضاياهم اليومية، بعيدًا عن الطروحات النظرية أو الشعارات الفضفاضة، فهم يبحثون عن أحزاب تمتلك برامج قابلة للتطبيق، تلامس طموحاتهم في التعليم والتوظيف والريادة والعدالة الاجتماعية، وكما يشيرون إلى ضعف الأدوار القيادية المتاحة لهم داخل بعض الأحزاب نتيجة استمرار ظاهرة إعادة تدوير النخب التقليدية، ما يخلق فجوة بين جيلين ويُضعف الثقة بالعمل الحزبي كممر حقيقي للمشاركة وصناعة القرار، ولكن في المقابل، فإن مواجهة هذه التحديات لا يمكن أن تكون مسؤولية الأحزاب وحدها، بل هي مهمة مشتركة تتطلب وعيًا وإصرارًا من الشباب أنفسهم، فمن وجهة نظري لا بد أن يمتلك الشباب روح المقاومة والتمسك بحقهم في المشاركة باعتبارهم الفئة الأكبر والأكثر تأثيرًا في المجتمع الأردني، فالشباب هم وقود التغيير وأساس التجديد، وهم القادرون على إعادة رسم المشهد السياسي بروح جديدة تعكس وعي الجيل وعمق انتمائه للوطن.
وأوضحت الصمادي لعلّ ما يميز المرحلة الراهنة أن الأحزاب الأردنية بدأت تدرك أهمية استقطاب الكفاءات الشابة، وضرورة بناء جسور الثقة معها من خلال فتح الأبواب أمامهم وتفعيل مشاركتهم في مواقع القيادة وصنع القرار، فالتجارب الأخيرة أثبتت أن الأحزاب التي استطاعت منح الشباب مساحات حقيقية في مجالسها ومكاتبها التنفيذية، نجحت في إعادة الحيوية إلى المشهد السياسي، وكسرت حاجز العزوف الذي كان يطغى على الأجيال السابقة، ويشهد الأردن اليوم حالة “إعادة تموضع” واضحة للأحزاب السياسية، حيث تسعى العديد منها إلى تطوير بنيتها الداخلية وإعادة هيكلتها بما يتلاءم مع أهداف المرحلة الجديدة من التحديث السياسي، وقد برزت توجهات نحو اندماجات بين الأحزاب المتقاربة في الفكر والبرامج، في خطوة تهدف إلى تكوين كيانات حزبية قوية وفاعلة قادرة على المنافسة في الانتخابات المقبلة والمشاركة الفعلية في الحياة البرلمانية وصناعة القرار الوطني، وهذه الخطوة من شأنها أن تؤسس لحالة حزبية أكثر نضجًا وتماسكًا، قائمة على التنافس البرامجي لا الشخصي، وعلى العمل الجماعي لا الفردي.
وبينت الصمادي إنّ هذا التحول في الفكر الحزبي الأردني يُعدّ مؤشّرًا إيجابيًا على أن الدولة تمضي بثبات نحو ترسيخ المسار الديمقراطي الحقيقي، بما يعزز الثقة بين المواطن ومؤسسات الحكم، ويعطي الشباب مساحة أوسع للمشاركة وصناعة التغيير، وكلما اتسعت دائرة المشاركة السياسية وتنوّعت الاتجاهات الفكرية ضمن إطار وطني جامع، ازدادت قوة الأردن ومناعته، واقترب أكثر من تحقيق رؤيته في الإصلاح الشامل والتنمية المستدامة، وفي هذا السياق يؤكد جلالة الملك عبدالله الثاني دومًا في خطبه وتوجيهاته، أن الشباب هم محور عملية التحديث السياسي والإداري والاقتصادي، وأن مشاركتهم الفاعلة في الحياة الحزبية تشكل جوهر مشروع الدولة الحديثة، فقد شدّد جلالته على أن المرحلة المقبلة تتطلب أحزابًا برامجية قادرة على إفراز قيادات مؤهلة تمثل المواطنين وتدافع عن مصالحهم داخل البرلمان، مشيرًا إلى أن نجاح مشروع التحديث السياسي مرهون بمدى انخراط الشباب والمرأة في العملية الديمقراطية، ورؤية جلالة الملك تمثل خارطة طريق واضحة للأحزاب، تدعو إلى الانتقال من مرحلة التنظير إلى التنفيذ، ومن الخطاب إلى الفعل، وهي دعوة صريحة لكل شاب وشابة لأن يكونوا جزءًا من صناعة القرار لا مجرد متفرجين عليه، وأن يؤمنوا بأن مستقبل الأردن لن يُكتب إلا بأيدي أبنائه المخلصين الذين يؤمنون بالحوار، والانفتاح، والعمل الحزبي المنظم.
وبناءً على ذلك، فإن التحديات القائمة مهما كانت كبيرة، تبقى قابلة للتجاوز حين تتوافر الإرادة الحقيقية والرؤية الوطنية المشتركة، فالأردن اليوم أمام فرصة تاريخية لإعادة صياغة الحياة السياسية على أسس أكثر انفتاحًا وواقعية، والأحزاب أمام امتحان حقيقي لتجديد أدواتها وبرامجه
