صدى الشعب – راكان الخريشا
الأردن اليوم يعيش مرحلة فارقة في تعزيز دور الشباب السياسي، إذ لم يعد مجرد شعار يُتغنّى به، بل أصبح واقعاً ملموساً يترجم وعي الشباب الأردني وإرادتهم في المشاركة الفاعلة في الشأن العام. الشباب الأردني، المعروف بوعيه التاريخي وذكائه التحليلي، انتقل في السنوات الأخيرة من مجرد النقاشات والمجالس الصغيرة إلى ساحات الأحزاب والمنصات الرقمية، مسجلاً حضوره كركيزة أساسية لبناء مستقبل أكثر ديمقراطية واستقراراً.
ويأتي هذا التحول امتثالاً لرؤية جلالة الملك عبدالله الثاني في تفعيل دور الشباب ومنحهم أولوية قصوى في العملية السياسية، بدعم من تشريعات حديثة مثل التعديلات الدستورية وخفض سن الترشح، إضافة إلى تعزيز الكوتا الشبابية في الأحزاب. الدولة، من جانبها، لم تكتفِ بفتح الأبواب، بل عملت على بناء بنية مؤسسية ومجتمعية متكاملة، تشمل الجمعيات الشبابية، المنظمات غير الحكومية، المدارس السياسية، والقطاع الأكاديمي والإعلامي، لتمكين الشباب من التأثير الفعلي في صنع القرار وتعزيز ثقافة المشاركة الوطنية.
اليوم، يقف الشباب الأردني في قلب مسار التغيير السياسي والاجتماعي، بمزيج من الحماس والإبداع، ووعي متجذر، ورؤية واضحة للمستقبل، مؤكدين أن مشاركتهم في الأحزاب السياسية ليست مجرد حق دستوري، بل مسؤولية وطنية حقيقية تضمن استمرارية الدولة وتعزز قوتها ومتانتها.
وفي هذا الصدد قالت المحامية والمختصة بالشأن السياسي، هبة أبو وردة، إن الأردن اليوم يتغنّى بالشباب كركيزة أساسية لبناء مستقبل أكثر ديمقراطية واستقرارا، لكن الحقيقة أن الشباب الأردني وُلد واعيا وتاريخيا، وكان أهم ما يميز الأردن هو عقول أبنائه. وإن كنا على سبيل الفكاهة نردد دائما عبارة “هذه بلد العشرة ملايين محلل”، إلا أنها وصف حقيقي للوعي الجمعي المتجذر في المجتمع الأردني. فالأردن يمتلك عقولاً سياسية وقانونية واقتصادية وفكرية نادرة ومتنوعة، ترعرعت في بيئة مشبعة بالنقاش الواعي والمسؤول، ولكن ما يحدث في السنوات الأخيرة هو انتقال هذا الوعي من المشافهة إلى التنظيم، بمعنى أوضح انتقاله من المجالس الصغيرة والمقاهي إلى المشاركة الحقيقية في الشأن العام وساحات الأحزاب والمنصات الرقمية. ويُعزى هذا التحول بدايةً إلى ما أراده جلالة الملك عبدالله الثاني حين دعا إلى تفعيل دور الشباب ومنحهم أولوية قصوى في رؤيته لمستقبل الأردن، ومن أهم ما ركزت عليه تلك الرؤية ضرورة إشراك الشباب في العملية السياسية عبر الأحزاب البرامجية كخطوة أساسية لتحقيق تطلعاتهم، وما تلا ذلك من مبادرات ملكية سامية في هذا الإطار، وصولا إلى وضع أساس قانوني يترجم هذه الرؤية عبر مسارات عدة، أهمها التعديلات الدستورية التي خفضت سن الترشح، بالإضافة إلى قانون الأحزاب الذي عزز الكوتا الشبابية وزاد من فرص تمثيل الشباب في مواقع صنع القرار، وأكملت الدولة هذا الدور من خلال مؤسساتها الوطنية والمجتمعية، مثل الجمعيات الشبابية والمنظمات غير الحكومية ومنتديات الشباب والمدارس السياسية، التي وفرت مساحات للحوار والتدريب وصقل المهارات القيادية. ومن المتوقع أن تتزايد أهمية القطاعات الأكاديمية والإعلامية في نشر الوعي السياسي وتقييم أداء الشباب المشاركين في الحياة العامة.
وأضافت ابو وردة لا شك أن بفضل تكنولوجيا المعلومات والحراك الاجتماعي ارتفع مستوى الوعي السياسي لدى الشباب، وشكلت هذه التحولات بصمة تكاملية مع جهود الدولة، وبالتالي فإن الفارق اليوم هو نتاج تلاقي الوعي التاريخي بالتطور التشريعي والرقمي، مما زاد الشباب الأردني حماسا وإرادة للتغيير الإيجابي. لقد أصبحنا نلمس مصادر إبداع وطاقة ديناميكية قادرة على دفع الوطن نحو الأفضل بخطى أسرع وثقة أكبر، ونحن نعي تماماً أن انضمام الشباب إلى الأحزاب السياسية قبل سنوات قليلة فقط كان يثير رهبة، وينظر إليه على أنه أمر محظور ويبعث على التساؤلات. لكن الرؤية الملكية المتكررة، وما تبعها من تعزيز شرعية الأحزاب، منحت ضمانات قانونية ومعنوية أزالت الحاجز النفسي الذي كان يقف عائقاً أمام الشباب.
وأشارت ابو وردة الحزبي اليوم بات محمياً بالقانون، والطالب المشارك في النشاط الحزبي داخل الجامعات لم يعد مهدداً بعقوبات، والموظف المنتسب إلى حزب لم يعد يخشى الوصم أو المساءلة. أي أننا انتقلنا من زمن كان فيه التحزّب تهمة اجتماعية إلى زمن أصبح فيه حقاً دستورياً ووسيلة وطنية مشروعة للتعبير والتأثير في الشأن العام، ولا يمكن إنكار الدور المهم الذي قامت به الأحزاب نفسها في هذا التحول، إذ إن تحديث أساليب عملها وبرامجها بما يتناسب مع تطلعات الجيل الجديد أحدث فارقاً كبيراً، ورسخ ثقة الشباب بقدرتهم على أن يكونوا جزءاً من صناعة القرار ورسم المستقبل، وتعزيز حضور الشباب في الأحزاب وإشراكهم في صنع القرار يتطلب بنية قانونية ومؤسسية متكاملة، فالمطلوب اليوم هو الانتقال من مجرد استهداف الشباب باعتبارهم أعضاء طموحين إلى التعامل معهم كصناع قرار مؤهلين، يمتلكون القدرة على التفكير والتأثير. لم يعد مجدياً التوقف عند حدود الترحيب بالتحزّب الشبابي، بل آن الأوان للانتقال إلى هندسة حزبية جديدة تضمن مشاركة حقيقية وفاعلة.
وتابعت ابو وردة البداية تكون من داخل الحزب نفسه، عبر تعديل أنظمته الداخلية بما يضمن تخصيص نسب ثابتة للشباب في المقاعد القيادية، وتحديد مدد إشغال المناصب لإعادة تجديد الدماء بشكل دوري. فالقيادة اليوم تحتاج إلى الاندفاع الشبابي والإيجابية، كما تحتاج إلى خبرات المخضرمين لتتكامل الرؤى وتتعزز الكفاءة المؤسسية.
وأوضحت ابو وردة لا بد من إتاحة المجال أمام الشباب للوصول فعلياً إلى مواقع صنع القرار، لا أن يظلوا محصورين في المواقع التنظيمية الدنيا. ويمكن تحقيق ذلك من خلال إنشاء “معامل تفكير حزبية” يقودها الشباب، تعمل على إنتاج أوراق سياسات اقتصادية واجتماعية وتعليمية تُرفع إلى المكاتب السياسية العليا، مع إلزام الحزب بالرد عليها بردود معللة خلال مدة محددة. بهذه الطريقة، يصبح الشاب جزءاً من عملية التشريع الداخلي للحزب، لا مجرد ناقل لأفكاره أو منفذ لتوجيهات، فالتمكين الحقيقي يبدأ عندما يتحول الحزب إلى “مدرسة قيادية وسياسية” متخصصة، أشبه بـ”أكاديمية حزبية للشباب”، تكون مؤسسة مستمرة لا دورة عابرة، تتيح لهم الترقي داخل الحزب وفق معايير واضحة ومعلنة قائمة على الكفاءة والإنجاز. وهنا تبرز أهمية “نظام الظل”، الذي يتيح للشاب المتحزب أن يتدرب على القيادة الفعلية، ويتعلم من التجربة الواقعية، ثم يُمنح الفرصة ليتولى المنصب عند شغوره.
وبينت ابو وردة النظام يحقق نتيجتين أساسيتين الأولى أن الحزب يتمكن من تخريج جيل مدرب على التشريع، والمفاوضة، والإعلام، والتحليل الاقتصادي والسياسي، والثانية بناء مسارات مهنية داخل الحزب، يشعر معها الشاب أن جهوده تقوده إلى موقع مستحق، دون أن يصطدم بـ”سقف زجاجي” يمنعه من التقدم أو المشاركة الحقيقية، ومن منظور التجديد الذي لا يتوقف عند الفكرة، يجب أن تؤخذ التكنولوجيا بعين الاعتبار، فهي اليوم جزء لا يتجزأ من بنية المشاركة السياسية. لذلك من الضروري إنشاء منصة رقمية داخل الحزب تتيح التصويت الإلكتروني، وتقديم المقترحات، وقياس الرأي الداخلي، بحيث يكون الشاب في الطفيلة أو المفرق شريكاً في القرار بذات القدر الذي يشارك به شاب في عمّان.
وأشارت ابو وردة كما يجب أن يمتلك الحزب “غرفة سردية رقمية” يقودها شباب مختصون في تحليل البيانات والتواصل الرقمي، يرصدون المزاج العام ويقيسون أثر الخطاب الحزبي بشكل أسبوعي. وبهذا المعنى يصبح “الذكاء الرقمي” ذراعاً سياسية تمنح الشباب سلطة المعرفة قبل سلطة المنصب، وتجعل من الوعي الرقمي جزءاً من أدوات الفعل الحزبي الحديثة، ولا يمكن إغفال أهمية بناء ثقافة داخلية مطمئنة تضمن حق الاختلاف والمساءلة، فالميثاق الداخلي للحوار يجب أن يحمي النقد ويجرم التخوين، وأن تُجرى تقييمات دورية من القواعد إلى القيادات، بحيث يشارك الشباب في تقييم أداء من يمثلهم. كما أن الشفافية المالية يجب أن تكون واضحة وسهلة القراءة، لأن الأجيال الجديدة لا تثق إلا بما هو معلن ومبرر بالأرقام.
واكدت ابو وردة إذا ما أُدرجت هذه المبادئ في النصوص الداخلية للأحزاب، فستنشأ ثقافة مؤسسية تربي القادة على النزاهة قبل الخطابة، وتمنح العمل الحزبي بعداً مهنياً مستداماً. هذه التفاصيل، في جوهرها، هي التي تصنع الفارق بين حزب يشارك الشباب فعلاً في صنع القرار، وحزب يكتفي بتعليق صورهم في واجهة المقر عند الحاجة لاستكمال قائمته الانتخابية، دعم مشاركة الشباب السياسية يحتاج إلى بناء نظام بيئي متكامل يجعل من الانخراط في الشأن العام مساراً طبيعياً في حياة المواطن. فدور الحكومة والمجتمع في هذا الإطار دور تكاملي، فالحكومة تشرّع الطريق، والمجتمع يمهّده، وعندما تلتقي هذه الأدوار على الإيمان بقدرة الجيل الجديد، تصبح المشاركة ثقافة متجذّرة في بنية الدولة.
الإطار القانوني العادل وضمان تكافؤ الفرص السياسية يشكّلان الأساس، لكن المجتمع هو الذي يمد هذا الإطار بالشرعية الثقافية والقبول الاجتماعي. فعندما تتعامل الدولة مع الشباب بوصفهم شركاء في القرار، لا تخشى انتخابهم أو توليهم المناصب العامة، فإنها تكرّس الثقة بقدراتهم وتمنحهم المساحة ليكونوا جزءاً من عملية القيادة وصنع القرار. نحن بحاجة اليوم إلى ترسيخ الثقة في وعي الشباب وتحولهم من جمهور يُدار إلى جيلٍ يُدير.
وقد بدأ الأردن بالفعل بتفكيك المفاهيم التقليدية التي كانت تعيق هذا التحول، من خلال تحديث المنظومة السياسية، وخفض سن الترشح، ودعم تأسيس الأحزاب الجديدة، إلى جانب إطلاق برامج تدريب وتمكين للشباب داخل الوزارات والهيئات المنتخبة. فالدولة هنا لا تكتفي بفتح الأبواب أمام الشباب، بل تعيد هندسة البناء السياسي ليكون قادراً على استيعاب جيل جديد برؤى معاصرة وإرادة فاعلة.
وهذا التوجه يعكس بوضوح الرؤية الملكية التي وضعت الشباب في صميم مشروع التحديث الشامل للدولة الأردنية. فالإيمان بقدراتهم لم يعد شعاراً، بل أصبح ممارسة مؤسسية تتجلى في القوانين والسياسات والمبادرات التي تفتح أمامهم آفاق المشاركة والتمكين.
أما المجتمع، فيتحمّل الدور الثقافي والأخلاقي في تثبيت هذه المشاركة، لأن الثقة لا تُبنى فقط عبر التشريعات، بل أيضاً عبر التربية المدنية وثقافة الحوار داخل الأسرة، وعبر القبول الاجتماعي لفكرة أن الشاب قادر على القيادة بفضل وعيه وكفاءته.
والمجتمع المدني، ممثلاً بالجامعات والنقابات والمؤسسات غير الحكومية، يشكّل الحاضنة التي تكمل عمل الدولة من خلال تدريب الشباب على العمل الجماعي، وتعليمهم كيف يختلفون دون أن ينقسموا، وكيف يعارضون دون أن يعادوا. فالممارسة الديمقراطية لا تُكتسب بالنصوص وحدها، بل تُغرس بالممارسة اليومية للحوار، والتسامح، والاحترام المتبادل.
بهذا المعنى، يصبح دعم المشاركة السياسية للشباب مشروعاً وطنياً شاملاً، تتكامل فيه الدولة والمجتمع لإنتاج جيل جديد من القادة، يؤمن بالدولة، ويشارك في بنائها، ويقودها نحو مستقبل أكثر وعياً واستقراراً.
الجيل الجديد يمتلك جرأة السؤال وذكاء الإصلاح، ويحمل طاقة معرفية كبيرة وقدرة عملية على التغيير. ويعود ذلك إلى أسباب عديدة، أهمها أنه وُلد في زمنٍ متشابك لا يمكن فيه فصل السياسة عن التكنولوجيا، ولا العدالة عن البيانات، ولا الهوية عن المنصة الرقمية. لذلك فإن أدواته متعددة، تجمع بين التقليدي والمعرفي، وتستند إلى وعيٍ متحرك يتغذى على التجربة ويعيد صياغة نفسه كل يوم.
الشاب الأردني اليوم يمتلك ما يمكن تسميته بـ”الذكاء الجمعي المركزي”، إذ يُغذى وعيه السياسي عبر آلاف الشاشات الصغيرة التي تخلق نظاماً معرفياً مفتوحاً لا يمكن احتكاره أو توجيهه بسرية. هذه الديناميكية جعلت الشباب لا يخافون إلا من الجمود، ولا يطلبون إلا الشفافية والمشاركة، ولا ينتظرون الإصلاح بل يمارسونه سلوكاً ومبادرة. وهم يعبّرون عن حماسهم من خلال مشاريع واقعية، سواء عبر أحزاب حديثة أو مبادرات رقمية أو حملات قانونية أو محتوى توعوي يصنع أثراً ملموساً في المجتمع.
عبقرية هذا الجيل تكمن في قدرته على إعادة تعريف مفهوم الطاعة، فهو لا يطيع إلا ما يقتنع به عقلاً وقيمة، ويؤمن أن الولاء لا يتناقض مع النقد، وأن حب الأردن يعني تطويره وحمايته من الترهل. وهنا تتجلى قوة الوعي الأردني في نسخته الحديثة؛ وعي يحمل الموروث الوطني في جوهره، لكنه يستخدم لغات جديدة للتعبير عنه.
إضافة إلى ذلك، فإن هذا الجيل يمتلك رؤية مصلحية بالمعنى النبيل، فهو يبحث عن حياة كريمة، ومؤسسات فاعلة، واقتصاد منتج، وكرامة دستورية ملموسة. إنه جيل لا يسعى إلى الثورة بقدر ما يطمح إلى “إعادة برمجة” هادئة للنظام العام، أكثر عدالة وكفاءة وشفافية.
الشباب الأردني اليوم يقف في نقطة توازن إيجابية، حيث يلتقي الإيمان بالعقل، والانتماء بالوعي، والماضي بالمستقبل. وهذا ما يجعل قدرته على إحداث تغيير إيجابي في المشهد السياسي والاجتماعي حقيقة حتمية لا احتمالاً.






