صدى الشعب – راكان الخريشا
في تطور اقتصادي دولي لافت، أعاد رسم ملامح العلاقات بين أكبر اقتصادين في العالم، أعلنت الصين والولايات المتحدة عن اتفاق جديد جرى التوصل إليه خلال لقاء الزعيمين في كوريا الجنوبية، ليشكّل محطة مفصلية في مسار الحرب التجارية التي أرهقت الأسواق العالمية خلال السنوات الماضية.
الاتفاق، الذي تضمن تخفيض الرسوم الجمركية المتبادلة واستئناف التعاون التجاري في قطاعات رئيسية، فتح الباب أمام مرحلة من الهدوء النسبي بعد سنوات من التوتر والتصعيد، وسط ترقب عالمي لتداعياته على أسعار الذهب والنفط وحركة الأسواق المالية.
الخبير والمحلل الاقتصادي منير دية تحدث لـ«صدى الشعب» عن تفاصيل هذا الاتفاق وتوازناته الدقيقة، وما يحمله من مؤشرات على تحوّل في موازين القوى الاقتصادية العالمية، موضحًا أن الاتفاق جاء بحذر واضح، وأن الصين تمكنت من ترسيخ موقعها كقوة صاعدة فرضت شروطها على الطاولة الدولية.
وقال دية، إن الاتفاق الذي جرى الإعلان عنه في كوريا الجنوبية بعد لقاء الزعيمين الصيني والأمريكي، تم من خلاله التوصل إلى تفاهم يقضي بتخفيض الرسوم الجمركية على الواردات الصينية إلى السوق الأمريكية من 57% إلى 47%. وفي المقابل، استأنفت بكين مشترياتها من فول الصويا الأمريكي، ورفعت القيود عن تصدير المعادن النادرة إلى الولايات المتحدة لمدة عام، ويبدو أن الاتفاق جاء بحذر واضح، فالصين لم تمنح واشنطن كل ما كانت تطمح إليه، وكما أُعلن عن جولات دبلوماسية مرتقبة، حيث من المتوقع أن يزور الرئيس الأمريكي بكين في شهر نيسان المقبل، على أن يقوم الرئيس الصيني بزيارة مماثلة إلى الولايات المتحدة، في إطار تعزيز التفاهم بين البلدين، ولا شك أن هذا الاتفاق خفف من حدة التوتر في الحرب التجارية التي اندلعت منذ بداية العام الحالي مع تولي الرئيس الأمريكي مهامه، والتي شهدت تصاعدًا غير مسبوق في تبادل فرض الرسوم الجمركية بين الجانبين، وقد أدى توقف الصين عن استيراد المنتجات الزراعية الأمريكية، خصوصًا فول الصويا، إلى أزمة اقتصادية كبيرة لدى المزارعين الأمريكيين الذين يعتمدون بشكل كبير على السوق الصينية.
وأضاف دية كما تسبب توقف تصدير المعادن النادرة، وفرض الرسوم الجمركية على الواردات الأمريكية، بحالة من الركود والاضطراب في الأسواق العالمية، التي شهدت ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار الذهب والمعادن النفيسة كالفضة والنحاس، وشهدت الأسواق تقلبات واضحة، تمثلت بانخفاض قيمة الدولار مقابل ارتفاع بعض العملات الأخرى، إضافة إلى تذبذب أسعار النفط بين الارتفاع والانخفاض، إلى جانب تراجع مؤشرات الأسهم العالمية في بعض الفترات، وهذه التقلبات التي أحدثتها الحرب التجارية تدخل اليوم مرحلة جديدة بعد الإعلان عن الاتفاق، الذي من شأنه تخفيض مستوى التصعيد وفتح المجال أمام فترة من الهدوء النسبي في الأسواق، مع انسيابية أكبر في حركة الاستيراد والتصدير عالميًا.
وأشار دية ومن المتوقع أن تشهد السنة المقبلة انتعاشًا اقتصاديًا نسبيًا، وتحسنًا في حركة النقل والتجارة بين دول العالم، إلى جانب تراجع في حدة التوتر التجاري بين القطبين الاقتصاديين الأكبر في العالم، الصين والولايات المتحدة الأمريكية، وفي ضوء هذا الاتفاق، أعتقد أن أسعار الذهب ستبدأ بالانخفاض التدريجي، إلا أن ما أبقى الذهب عند مستويات مرتفعة تقارب أربعة آلاف دولار للأونصة هو قرار الاحتياطي الفدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة على الدولار، ضمن سياسته النقدية التيسيرية، هذا القرار ساعد الذهب على البقاء في مستويات مرتفعة نسبيًا رغم التوقعات بانخفاضه.
وتابع دية ويرى مراقبون أن الاتفاق لم يتمكن من دفع أسعار الذهب إلى المستويات التي كان من المتوقع أن تصل إليها عقب الإعلان، والتي قدرت بنحو 3700 دولار للأونصة، لذلك بقي الذهب محافظًا على ارتفاعه النسبي حتى الآن، مع توقعات بانخفاض تدريجي خلال الفترات المقبلة، وأما بالنسبة لأسعار النفط، فقد شهدت ارتفاعًا طفيفًا في ضوء هذا الاتفاق، نتيجة توقعات بزيادة الطلب العالمي، إلا أن العقوبات المفروضة على روسيا أدت إلى تراجع صادرات النفط الروسي، مما حدّ من ارتفاع الأسعار إلى المستويات التي كانت متوقعة بعد توقيع الاتفاق، وذلك أن الاقتصاد العالمي يشهد تباطؤًا نسبيًا وتحولًا تدريجيًا نحو مصادر الطاقة البديلة مثل الكهرباء والطاقة الشمسية والسيارات الكهربائية، إضافة إلى التوسع في استخدام الطاقة النظيفة، وهو ما ساهم بدوره في الحد من ارتفاع أسعار النفط، وبناءً على ذلك، يمكن القول إن الذهب حافظ على قوته بفضل السياسة النقدية الأمريكية، بينما بقي النفط متأثرًا بالعقوبات الجيوسياسية وبالتحول العالمي نحو الطاقة المتجددة، في وقت يسعى فيه الاقتصاد العالمي للتأقلم مع مرحلة جديدة من التوازن بعد الاتفاق الأمريكي – الصيني.
وأوضح دية أعتقد أن الصين خرجت منتصرة من هذا الاتفاق، إذ لم تتمكن الولايات المتحدة الأمريكية من إدخال ملف تايوان ضمن بنود الاتفاق، ما يعني أن الأمور بقيت على حالها في هذا الجانب الحساس. وقد تمكنت الصين من فرض شروطها الواضحة، في مؤشر على صعود قوتها السياسية والاقتصادية على الساحة الدولية، ويبدو أن هذا الاتفاق شكّل منعطفًا مهمًا في موازين القوى العالمية، إذ لم تستطع الولايات المتحدة فرض رؤيتها على بكين كما جرت العادة في مفاوضات سابقة، بل كانت الصين الطرف الأكثر ثباتًا وتمسكًا بمصالحه، ما جعلها تخرج من هذه الجولة التفاوضية بمكاسب ملموسة، ويُتوقع أن يعكس هذا الاتفاق ملامح المرحلة المقبلة في العلاقات الدولية، حيث باتت الصين تمثل ركيزة أساسية في النظام العالمي الجديد، قادرة على وضع شروطها وتحديد اتجاهات سياساتها الاقتصادية بما يتناسب مع مصالحها الوطنية، في وقت تشهد فيه الولايات المتحدة تراجعًا نسبيًا في قدرتها على فرض إرادتها المطلقة في الملفات الاستراتيجية الكبرى.
