صدى الشعب – كتبت فوز أبو سنينة
تتساءلون كيف انتهيت بين صفحات جريدة الحوادث في مدينة “جوردس” الفرنسية التي أسكنها؟ حسناً، سأخبركم حالاً.. أنا فتاة عربية واسمي سما، أعيش في هذه المدينة منذ سنين، وقد جئتها محتمية من الفاقة في بلدي، وجلد الجلادين في مجتمع يعرّي المحتاج أمام إلحاح الحاجة.. دائما ماً كنت أرى الغربة كنجمة ساطعة في سماء المستقبل يعجبني بريقها، فضوؤها الخافت كان يتسلل إلى وجداني ليملأني بحماسة المجهول وتحدي الأيام.. ولكنني اكتشفت أن الغربة ككل النجمات هي بريق بعيد لا ندري ماذا يخفي وأين تكون اذا ما حاولنا لمسها.. وها أنا ذا اليوم أمامكم قد سحبتني الغربة إلى مضمارها، لأعيش وأعمل فيها.. فتكون بيننا صولات وجولات أهزمها مرة، و تهزمني مرات وتسود بيننا هدنة حذرة مرات أخر..
وما حدث معي قبل يومين هو مثال على واحد من هذه النزالات..
إذ إنني وبعد أن أنهيت عملي كنادلة في أحد المطاعم المطلة على المناظر الطبيعية الخلابة للتلال التي تحيط بالمدينة، وبينما كنت أسير بدراجتي الهوائية كالعادة يلفحني الهواء على وجنتي المكشوفتين، وتدغدغ حواسي رائحة المخبوزات الساخنة وهي تنبعث من المخابز والمحال المتراصفة على جنبات الطريق الضيق في وسط المدينة القديمة، أوقفت الدراجة على الرصيف وربطتها بقفل في المكان المخصص بجانب محل المجوهرات المشهور في البلدة ودخلته أنشد هدية جميلة أشتريها لأمي بمناسبة عيد الأم العربي الذي لم أكن قبلاً أعرف بوجود غيره.
قرعت الأجراس الصغيرة فوق بوابة المحل معلنة دخولي، و وقفت أتأمل بإعجاب قطع المجوهرات الذهبية والفضية المعروضة بعناية خلف الأبواب الزجاجية المغلقة.. خرجتْ البائعة من غرفة داخلية تمسح يديها بفوطة بيضاء مسلّمة بترحاب وتعلو وجهها ابتسامة، ولكن تحيتها قد فترت عند رؤيتي وابتسامتها كانت قصيرة المدى والتأثير.. فقلت لأبدأ معها اللقاء من الصفر من جديد:
ـ مساء الخير
ـ مساء الخير.. هل يمكنني مساعدتك؟ اسمعي آنستي، لأجنبك الإحراج، أود إعلامك بأننا هنا لا نملك قطع الإكسسوارات الرخيصة التي تبحثين عنها أنت كما أظن.. قالت لي بضجر وببعض الاستعلاء، فأجبتها معترضة:
ـ ولكن أنا أبحث عن هدية، هدية لأمي..
ـ آنستي.. لا أملك ما تبحثين عنه فنحن هنا محل مجوهرات.. مجوهرات حقيقية! يعني ذهب وفضة وألماس، ثم إنني مشغولة الآن، إذا أردت إضاعة الوقت في النظر فأرجوك عودي في يوم آخر وسأكون سعيدة بمساعدتك..
قالت وهي ترافقني مشدوهة إلى الباب بحزم.. فتوقفتُ عن المشي فجأة وقلتُ بجرأة متلعثمة:
ـ ولكنني قد كرست مبلغ مئتين وخمسين يورو للهدية! لا بد أن أجد عندكم شيئاً ما بهذا المبلغ..
لمعت عيناها ببريق البائع الصياد، وتغيرت ملامح وجهها لتعكس قبولاً حذراً و ولادة ابتسامة طفيفة على مضض، وقالت:
ـ تفصلي.. ألقي نظرة وسأعود لأساعدك خلال دقائق..
بدأت أصوات صفارات الإنذار تقرع في رأسي، هل قلت مئتين وخمسين يورو؟! يا إلهي.. كانت النية بعد استنزاف صفحات في حساب النفقات والضروريات أن أخصص مبلغ خمسة وسبعين يورو فقط للهدية حتى لا آتي على القسم الأكبر من مرتبي الشهري الذي تم وضعه اليوم فقط في حساب البنكي! هل يمكنني دفع هذا المبلغ؟! ما الذي دعاني لقول ذلك؟! إنها الكرامة العربية يا سادتي، تكون خابية نائمة، لكنها أول ما يستصرخ ويهاجم عند أول محاولة مساس بكيانها المتهالك منذ أن هزمنا أنفسنا قديماً ومراراً وتكراراً! فكرت بمرارة يشوبها السخرية في داخلي..
ثم وما بين أفكاري وكرات العتاب واللوم المتبادلة بيني و بين نفسي، وقعت عيناي على سلسلة ذهبية جميلة ورفيعة كرفع أصابع أمي المتعبة من مناهدة الأيام، وفي آخرها يتدلى قلب لامع كلمعان الدمعة على خدها، وهي تدعو لي بكل خيرات العالم التي فاتتني..
تنحنحت لألفت انتباه البائعة بعد أن رسا اختياري على هذه القطعة الجميلة فلم تجب، فناديتها بصوت رصين:
ـ سيدتي؟
خرجت مسرعة من الغرفة الداخلية ببرود، فقلت على عجل لأنهي احتضار الوقت:
ـ أعجبتني هذه السلسلة، كم سعرها لو سمحت؟
أخرجتها بحذر من الخزانة الزجاجية و وزنتها ثم حسبت سعرها وقالت:
ـ مئتان وثلاثين يورو.. هي قطعة جميلة ومميزة.. أكملت وهي تحدجني بنظرة استغراب مستهجنة، فابتسمتُ رافعة حاجبي الأيمن بتحدي لعجرفتها، أخفضت بصرها وسألتني:
ـ هل تريدينها في علبة للهدايا؟!
ـ طبعاً.. أجبتها بثقة، أريدها في أجمل علبة..
دفعتُ المبلغ المطلوب وحملت الكيس الذي يحتوي على علبة المجوهرات المغلقة وفي داخلها هدية أمي، وخرجت من المحل أتنفس الصعداء فلقد أخذت كفايتي من السلبية لأسبوع كامل..
وفي الخارج وقفت بجانب دراجتي الهوائية، ولكن وقبل أن يتسنى لي أن أضع الكيس في حقيبة الظهر الحمراء التي أحملها معي دائماً، مر من جانبي الفان الأصفر الصغير الذي أعرفه جيداً وأعرف صاحبه، أصلع الشعر وسمين البطن الذي بدأ وصلة صراخه المعتادة التي يقدمها إلي حانقاً كلما رآني.. لكن يبدو أنه اليوم قد زاد العيار قليلاً بعد أن رآني خارجة من محل مجوهرات، وكأنه المسؤول في بلادي يرى له الحق في أن يحاسبني على كل ما أصرفه من جيبي الخاص في الداخل والخارج..
تحليت بالصبر الذي أستجديه دائماً بالاستعطاف لكل الأنبياء والرسل، ثم انهمكت في فك القفل عن الدراجة واعتليتها بينما كنت أسمعه وهو يتابع مردداً دون تعب:
ـ مهاجرة وضيعة!! تشترين المجوهرات بأموال الضرائب التي ندفعها.. مسلمة بغيضة! عودي إلى بلادك…
أخافني كثيراً على الرغم من أنني كنت قد اعتدت تجاهله، بل حتى انني صرت أخلق له الأعذار لأبرر كرهه وعداءه.. وكان عذري المفضل هو افتراض غيرته لأن صفار سيارته يختفي لمعانه أمام غطاء رأسي!
ماذا دهاه؟! إنه أكثر سخطاً وسمّاً من عادته اليوم.. أصابني الذعر وأنا أراه يقرّب عجلة سيارته من دراجتي ويبعدها بحركات مباغتة لإخافتي أكثر، استمريت في السير في محاولة بائسة لتجاهله، ثم فجأة فقد السيطرة على المقود وصدم عجلة الدراجة الخلفية بقوة، فطار جسدي الصغير وحقيبة ظهري الحمراء في الهواء حتى هبطّتُ على مقدمة المركبة.
وغبت عن الوعي وأنا أسمع صوت صاحب الفان الأصفر الصغير يصرخ بحنق:
ـ عربية متسولة.. أنظري ماذا فعلت؟ لقد خربتي سيارتي!
لا أذكر ماذا حدث بعد ذلك، لكني و عندما استيقظت وجدت نفسي هنا في غرفة مستشفى بيضاء خاوية، في وسطها سرير أبيض الغطاء وأمامه تلفاز نائم.. كنت ممددة في وضعية جلوس، قدمي مرفوعة على وسادة بيضاء مريحة ويدي اليسرى ملفوفة بإحكام ومربوطة إلى عنقي.. كانت ترقد بجانبي حقيبة الظهر الحمراء..
لم أكد أسترجع ما حدث معي حتى دخلت ممرضة إلى الغرفة، ابتسمت ابتسامة رحيمة عندما وجدتني قد استيقظت، وبعد أن قامت بفحصي بصمت والتأكد من مؤشراتي الحيوية، أعطتني مسكناً ليخفف عني طرقات المطرقة التي كنت أسمعها في رأسي، ثم قدمت لي الصحيفة المحلية وقالت وهي تهم بمغادرة الغرفة:
ـ لقد أصبحت مشهورة!
ابتسمت لها بأدب ولكنني لم أجبها.. إذ انني لم أفهم لم قالت لي هذا، فقد كنت مشغولة بالتفكير بما حصل وبدراجتي التي لا بد أنها تكسرت وسيكون عليّ تبديلها.. لا أملك المال لذلك هذا الشهر.. إنه حظي الرائع بالطبعَ سيكون عليّ المشي أيضاً إلى جانب الصيام.. ربما عليّ أن أبقى هنا بعض الوقت لأوفر ثمن الطعام والشراب! فكرة ممتازة.. ضحكت من يأسي.. ثم أخذتني تساؤلاتي إلى احتمالية أن يعوضني صاحب الفان الأصفر الصغير بشراء دراجة جديدة.. حلم إبليس في الجنة!
زادت أفكاري من الطرقات في رأسي، فأمسكت الصحيفة لأسلّي نفسي بها ففتحتها بفضول طفل.. كانت صحيفة الأمس ووجدت فيها صورة لمشهد الحادث وأنا ممددة على الأرض، بينما صاحب الفان الأصفر الصغير ينزع عني غطاء رأسي ليتفقد إذا ما كنت أعاني من إصابة في الرأس! كما صرّح هو بقلق لكاتب المقال..
أكملت القراءة في ذهول، ففي السطور التي جاءت لتلي الصورة كُتبْ: حادث ارتطام دراجة هوائية بفان والشرطة المحلية تحقق.. وقد كشفت التحقيقات الأولية من موقع الحادث أن السبب على ما يبدو يعود إلى غطاء الرأس الأصفر الذي طار على وجه الفتاة فحجب عنها الرؤية عند مرور الفان بجانبها، كما أعلن السائق وبعض شهود العيان.. و ختم المقال سطوره بطمأنة المواطنين الآمنين إلى أن البرلمان الفرنسي سيتدارك هذا الخطر المحدق بدراسة مشروع قانون يمنع السيدات من قيادة الدراجات وهن يرتدين الحجاب!