صدى الشعب – كتبت سُهاد طالباني
قبل عام واحد فقط، سقط حكم بشار الأسد، وانتهت حقبة امتدّت لأكثر من خمسين عاما من السيطرة العائلية على الدولة السورية. ذلك السقوط، الذي جاء بعد الهجوم الواسع الذي قادته “هيئة تحرير الشام” في أواخر تشرين الثاني 2024 وسيطرتها السريعة على حلب ثم دمشق، فتح الباب أمام مرحلة انتقالية تبدو على الورق واعدة، لكنها في الواقع محمّلة بتعقيدات لا تقل خطورة عمّا سبقها.
ومع حلول الذكرى الأولى، ظهرت الاحتفالات التي عمّت بعض المناطق كتنفّس جماعي بعد انهيار النظام القديم، لكنها لم تُخفِ اختلالات أمنية ومعيشية تنخر في المشهد وتثير أسئلة مبكرة حول قدرة السلطة الجديدة على إدارة الدولة بدل الانزلاق إلى فوضى طويلة.
تولّي أحمد الشرع الرئاسة في 29 كانون الثاني 2025 شكّل الإطار الرسمي لبداية المرحلة الانتقالية، إلا أن الخطوات التي اتُّخذت منذ ذلك الحين تطرح علامات استفهام أكثر مما تمنح إجابات. فالدستور المؤقت الذي صودق عليه في آذار، رغم تحديده مساراً انتخابياً يمتد حتى عام 2030، منح الرئيس صلاحيات واسعة في الأمن والقضاء، الأمر الذي يثير شكوكاً حول إمكانية بناء مؤسسات مستقلة فعلًا. أما الانتخابات البرلمانية غير المباشرة التي أفضت إلى اختيار 119 عضواً من أصل 210، فقد مثّلت انفراجاً أولياً، لكنها لم تغيّر بعد طبيعة السلطة المركزية أو تقلّص اعتمادها على أدوات السيطرة التقليدية.
ويبرز هذا التناقض بشكل أوضح في بطء إعادة تشكيل القضاء، وتعثّر تشكيل جهاز شرطة مهني، وفشل محاصرة اقتصاد المخدرات بشكل كامل، إلى جانب أن لجان العدالة الانتقالية ماتزال خطوات حالمة أكثر من كونها مساراً ملموساً.
المشهد العسكري يكشف بدوره حدود قدرة السلطة الجديدة على فرض سيطرة متماسكة. فالحملة الأمنية التي شهدها الساحل في آذار 2025 ضد مجموعات موالية للنظام السابق تحوّلت سريعاً إلى مواجهات طائفية أودت بحياة أكثر من 1200 شخص، ما كشف هشاشة خطابات “وحدة الدولة” التي تتبناها الحكومة. ومع استمرار الاشتباكات بين قوات سوريا الديمقراطية والقوات الحكومية في حلب والرقة ودير الزور، بدا اتفاق دمج القوات مجرد إعلان سياسي لا يمتلك أدوات التنفيذ، رغم محاولات التهدئة.
هذه الوقائع تجعل الحديث الرسمي عن “استعادة سلطة الدولة” أقرب إلى رغبة منه إلى واقع.
وفي قلب هذه المعضلات يبرز موقف الرئيس الشرع الحادّ من الفيدرالية. فهو يرفض بالمطلق أي تصور لتقسيم سوريا إلى أقاليم شبه مستقلة، ويراه “جهلاً سياسياً” يهدّد بتفتيت البلاد. لكن هذا الرفض، رغم تبريره بمنطق وطني، يكشف أيضاً قلقاً من فقدان السيطرة على مناطق لا تملك الدولة نفوذاً فعلياً داخلها. فمطالب الكورد في الشمال الشرقي، والدروز في السويداء، وبعض الأقليات الساحلية بالحكم المحلي، ليست مجرد نزعات انفصالية بل ردود فعل على غياب الدولة ذاته، ومطالبة بحقوق في التمثيل والمشاركة. ورغم أن الشرع يولي الساحل أولوية قصوى باعتباره محورًا اقتصاديا واستراتيجيا، فإن ما شهده من مواجهات طائفية واحتجاجات على خلفية الدعوات الفيدرالية يطرح سؤالًا حول قدرة المركز على إدارة منطقة مضطربة حتى لو احتفظ بقبضته عليها. وفي الجنوب، حيث تتصاعد الاضطرابات في محيط الجولان، كشفت أحداث بيت جن في تشرين الثاني 2025 هشاشة سيطرة الدولة وسهولة استغلال الفراغ من قبل بقايا النظام السابق وفصائل محلية، ما يضعف حجة “الوحدة الوطنية” التي يتذرع بها الشرع لرفض الفيدرالية.
اقتصادياً، تبدو الصورة أبعد ما تكون عن قدرة على التعافي. فالفقر يتفاقم، وانعدام الأمن الغذائي يزداد، والمدن المدمّرة تنتظر إعادة إعمار قد تصل كلفتها إلى 400 مليار دولار دون أي التزام دولي فعلي. ورغم الحديث عن إعادة فتح معابر مثل معبر نصيب وإطلاق إصلاحات ضريبية، لاتزال التضخمات وديون الحرب الضخمة المستحقة لروسيا وإيران تقيّد أي فرصة لنهضة حقيقية. وفي غياب رؤية اقتصادية واضحة، تبدو محاولة الحكومة للاعتماد على الزراعة والصناعات المحلية مجرّد حلول ترقيعية قد تُبقي الجسد الاقتصادي حيا، لكنها لن تعالجه.
على الصعيد الدولي، قدّمت التطورات المتسارعة في 2025 لحظة رمزية كبيرة أكثر من قدرتها على تغيير الواقع الداخلي. رفع العقوبات الأميركية في حزيران ثم زيارة الشرع لواشنطن في تشرين الثاني (وهي الأولى لرئيس سوري منذ 1946) قدّما انطباعاً بأن سوريا تدخل مرحلة انفتاح جديدة. لكن هذا الانطباع يصطدم بالتحديات الداخلية التي تعجز القرارات الدولية عن حلها. فتعليق “قانون قيصر” وإعادة صياغة العلاقات مع روسيا وإيران وفتح السفارة في واشنطن قد يشير إلى إعادة تموضع سياسي، لكنه لا يقدّم بديلا عمليا لإعادة الإعمار أو بناء منظومة اقتصادية متماسكة. وفي الوقت نفسه، تواصل تركيا تعزيز نفوذها وتملأ الفراغ في الشمال الشرقي، ما يكشف حدود قدرة دمشق على فرض شروطها في الملفات الأكثر حساسية.
في المحصلة، تبدو سوريا بعد عام على سقوط الأسد واقفةً على أرض رخوة. فبين شعارات عن تحول سياسي، ورغبة معلنة في إقامة دولة أكثر عدالة، وبين واقع اقتصادي متصدّع وصراعات مسلحة لم تُحسم، ماتزال البلاد بعيدة عن مسار مستقر وواضح. قدرة السلطة الانتقالية على النجاح ليست مؤكدة، بل تزداد الشكوك مع كل تأجيل أو إخفاق، ومع كل اتساع للفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع الميداني. ويبقى السؤال الأهم: هل يستطيع النظام الجديد أن يقدّم ما عجزت عنه السنوات الماضية، أم أنه يكرر أخطاءها في صيغة جديدة؟.






