خلال تجربتي بالعمل الصحفي، لم يسبق أن التقيت مسؤولا أردنيا يحمل كل هذا القدر من الشغف في عمله مثل المرحوم عقل بلتاجي. كان يقوم بوظيفته كما لو أنه يمارس أحب هواياته، دون تأفف أو شكوى.
في وزارة السياحة التي تولى حقيبتها تسعينيات القرن الماضي، أشعرنا جميعا بأن السياحة هي كل شيء في الأردن؛ المستقبل والأمل المنشود لاقتصاد إنساني يضع الأردن في الموقع العالمي الذي يستحقه.
اجتهد كمعلم مدرسة شغوف بتخصصه، ليدرسنا قصة الأردن وتاريخ مواقعه التاريخية. أول مرة سمعت فيها عن مغطس السيد المسيح كانت على يد عقل بلتاجي، ويذكر كل من عمل معه كيف قاتل بلتاجي على جبهات عدة ليكرس شرعية الموقع على خريطة السياحة الدينية، في مواجهة الرواية الصهيونية المفبركة.
السياحة على يده تحولت إلى صناعة في الأردن، ولم يفارقه اهتمامه بتطوير هذا القطاع حتى بعد أن غادر الوزارة، وانتقل إلى مدينة العقبة ليخوض هناك تحدي إعادة بناء صورة المدينة على النحو الذي أصبحت عليه.
عمدة عمان، لم ينل هذا اللقب عن جدارة سوى الدكتور ممدوح العبادي وعقل بلتاجي. كان عمدة بحق، بكاريزما أحبها أهل عمان، ومثل روحها وهويتها المتنوعة والجميلة. لم يتوقف أبدا عن التفكير بمشاريع جديدة تضع عمان في مصاف العواصم المتقدمة. كان عقله منجما للأفكار المبدعة والخلاقة، لا يرضخ لضجيج الانتهازيين والمتنمرين، ولا يتردد في اتخاذ القرارات التي يرى فيها مصلحة للمدينة. لكن وبرغم الحملات التي عانى منها لم يتوقف أبدا عن خوض حوارات طويلة وشاقة مع الناس ووسائل الإعلام ليكسب دعمهم، ودائما ما كان يفوز بثقتهم.
عقل شخصية تقدمية بكل ما للكلمة من معنى، يحتفل بالتنوع الاجتماعي لبلدنا، ويفهم الأردن كما أسسه الأوائل وأرادوا أن يكون. أعلى من شأن الفنون والأدب والموسيقا والتراث الأردني وجعل منها مكونا رئيسيا من مكونات الهوية الأردنية. أدرك قيمة الذوق في الوعي الاجتماعي، وكيف يكون للسياحة والمدن طعم ومعنى وذوق، يتجاوز المباني والشوارع والأعمدة.
مع مرور الوقت والسنوات في تجربته العملية، تحول عقل بلتاجي إلى ماركة أردنية، عند من أحبه أو خاصمه، لا فرق، صار يكفي أن تقول عقل لتستحضر صورة الرجل بوجهه وشاربه المميز، وأسلوبه في السرد والبناء وروحه التي لم تعرف الهزيمة.
لو كنت في موقع عقل بلتاجي، وواجهت ما واجهت من حملات تنمر وإساءة واتهامات ظالمة، لانكفيت على نفسي وانسحبت من الحياة العامة دون أن أسال أو اكترث. لكن عقل ظل في المواجهة، ولم يغادر المسرح، وظل على حبه للأردن، مفتونا في أرضه وإرثه وشعبه.
تعرفت على “أبو الليث” قبل أكثر من عشرين عاما وهو يقطن بيتا عاديا في إسكان مرج الحمام، وها هو يغادر الدنيا من ذلك البيت.
لروحه السلام.