صدى الشعب – بقلم: جهاد الفار
كلنا سمعنا عن “مدينة عمره” كمدينة جديدة يجري الحديث عنها في المخططات، يزداد السؤال إلحاحًا: هل مشكلتنا فعلًا نقص في المدن، أم سوء في الإدارة، وغياب في التخطيط، وتراكم في الأخطاء؟ ما نعرفه عن هذه المدينة لا يتجاوز خطوطًا على الورق، ووعودًا فضفاضة، ومفردات براقة لا تسكن بيوتًا مكتظة، ولا تفتح شارعًا مغلقًا، ولا تخفف اختناقًا يخنق عمان صباح مساء.
الأَولى، قبل التفكير في مدن جديدة، أن نفكر ببنية تحتية حقيقية تعيد توزيع الحياة، لا أن تكدّسها في مكان واحد حتى الاختناق. الأولى أن يكون لدينا قطار سريع، خفيف، لطيف، آمن، يربط محافظات الشمال بالعاصمة، من إربد إلى جرش إلى عجلون إلى عمّان، شريان حياة حقيقي لا مؤتمرات ولا مجسمات.
أراهن، بل أتحدى، أن أكثر من مليون مواطن سيعودون إلى قراهم ومدنهم فور وجود نقل عام محترم، سريع، وآمن، ورخيص. حينها فقط ستتنفس العاصمة، وتعيد المحافظات نبضها، وتبدأ العدالة المكانية بدلًا من مركزية مُنهِكة.
عمان لم تختنق فجأة، ولم يتضاعف ازدحامها بين ليلة وضحاها، فالسبب تراكمي، سنوات طويلة من غياب النقل العام الحقيقي، وترك الهجرة الداخلية تمشي بلا توجيه، وبلا شبكة طرق سريعة وآمنة تربط الأطراف بالمركز. أكثر من مليون ممن يسكنون العاصمة اليوم هم في الأصل من المحافظات، جاءوا طلبًا للعمل والخدمات والكرامة، لا حبًا في الزحام ولا عشقًا بالأسعار الفلكية. اليوم أصبح ثمن شقة صغيرة في عمان كفيلًا بأن تبني فيلا واسعة على أرضك في مسقط رأسك، لو فقط كان هناك عمل، وطريق آمن، وقطار يصل بك إلى رزقك بلا إذلال.
العاصمة اليوم تعاني عمرانًا بلا تخطيط، تمددًا بلا هوية، وارتفاعًا جنونيًا في الأسعار لا يعكس قيمة حقيقية، بل ضغطًا سكانيًا غير عادل. بينما القرى والمدن البعيدة تفرغ من شبابها، وتشيخ بصمت، وتنتظر مشروعًا لا يأتي. التنمية لا تُنقَل بالإعلانات، ولا تنتشر بالخرائط، بل تُزرع حين تتوفر العدالة في الفرص، وسهولة الوصول، وتكافؤ الخدمات.
لسنا بحاجة إلى مدينة جديدة فقط لأن العاصمة ازدحمت، بل نحن بحاجة إلى عقل جديد في التخطيط، وإرادة تُوزّع لا تُكدّس، وتُحيي الأطراف بدل أن تُجهِز عليها. نحن بحاجة إلى من يخطط وينفذ بولاية عامة قوية، لا تخاف من القرارات الكبيرة، ولا تكتفي بإدارة الأزمة، بل تعالج أصل المرض. نحتاج إلى دولة ترى الأردن كله عاصمة للحياة، لا أن تختصره في شوارع مزدحمة وأسعار لا تُطاق.
إن توزيع التنمية هو الحل الحقيقي، لا الهروب إلى مدن جديدة قبل إصلاح ما هو قائم. الحل أن نعيد الروح للمحافظات، أن نربطها بشبكة نقل تحترم الإنسان، أن نخلق فرص عمل حيث وُلد الناس، لا أن نجبرهم على الهجرة اليومية أو الدائمة نحو الاختناق. حينها فقط، سنكتشف أن المدن لا تُبنى بالإسمنت وحده، بل بالعدالة.






