صدى الشعب – داود عمر داود
هدد السيناتور الأمريكي الجمهوري المتنفذ، ليندسي غراهام، بتدمير اقتصادات أهم حلفاء بلاده إن هم ساعدوا على اعتقال نتنياهو. وحدد بالاسم كلاً من بريطانيا وفرنسا وألمانيا وكندا. كان تصريحاً خطيرأ وصادماً ونادراً، بين دول التحالف الغربي، التي كانت تبدو وكأنها على قلب رجل واحد. فماذا وراء هذا التصريح غير المسبوق وأسبابه؟
مذكرة اعتقال نتنياهو: جميع دول الاتحاد الأوروبي أعضاء في المحكمة الجنائية الدولية، وبالتالي هي ملزمة بتنفيذ قرارتها. ولقد جاء تهديد “غراهام” العلني لحلفاء واشنطن على خلفية صدور مذكرتي اعتقال عن محكمة الجنايات الدولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، ووزير دفاعه السابق، يولاف غالانت، تمهيدا لمحاكمتهما بتهم ارتكاب إبادة جماعية، وجرائم حرب، خلال العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، منذ أكثر من عام.
معروف أن هناك صراعاتٍ خفية، وتنافساً استعمارياً حاداً، على النفوذ والثروات في العالم بين هذه الدول الحليفة، المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، والتي تشكل ما أُصطلح على تسميته بـ “دول الغرب”، المهيمنة على العالم، منذ ذلك الحين.
فهي التي وضعت أُسس النظام العالمي الحالي. لكن أن يصل الأمر بالدولة الكبرى الأولى أن تهدد بتدمير اقتصادات حليفاتها، فهذا أمر لم يحدث من قبل، ولا بد أن يكون وراءه أمر جلل.
غراهام يهدد الحلفاء الأوروبيين: جاء تصريح ليندسي غراهام في مقابلة تلفزيونية، مع قناة فوكس، قال فيها حرفياً: “أيُ حليفٍ، سواءٌ كانت كندا أو بريطانيا أو ألمانيا أو فرنسا، اذا حاولتم مساعدة محكمة الجنايات الدولية سنفرض عليكم عقوبات”. ولما سأله المذيع عن ماهية العقوبات التي يتوجب فرضها، أجاب بالقول: “سنقوم بسحق اقتصادات هذه الدول. لأننا سنكون الهدف التالي” (في المثول أمام محكمة الجنايات الدولية).
وهكذا فإن الرعب الذي دب في قلوب كبار المسؤولين الأمريكيين، الحاليين والسابقين، والأوساط السياسية الحاكمة، التي يتحدث باسمها السيناتور غراهام، مرده الى أنهم يخشون أن يكونوا عُرضة لملاحقة محكمة الجنايات الدولية.
الخشية من مذكرات ضد مسؤوليين أمريكيين: ولذلك فإن الأمر غاية في الأهمية بالنسبة إليهم. فهم لا يخشون على مصير نتنياهو ووزير دفاعه بقدر ما يخشون على أنفسهم، أن يلقوا المصير نفسه نظير مشاركتهم في حرب الإبادة التي تشنها إسرائيل باسمهم، وبدعمهم، ومساندتهم على أهلنا في غزة. أو ربما تتم مساءلتهم على جرائم اخرى ارتكبوها من قبل في أماكن مختلفة من العالم، مثل العراق وأفغانستان وغيرها.
وما يزيد حالة الرعب لدى المسؤولين الأمريكيين، هو أن السحر ربما ينقلب على الساحر.
فهناك وضع مماثل يخص فلاديمير بوتين رئيس روسيا، احدى الدول الكبرى، التي شاركت في وضع النظام العالمي الحالي.
وهو الذي سعت واشنطن والحلفاء الذين تهددهم الآن، الى اتهامه بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا.
فهو أيضاً صدرت بحقه مذكرة اعتقال، في مارس آذار 2023، من قبل محكمة الجنايات الدولية للمثول أمامها كمجرم حرب.
ويا لها من إهانة، ومن عقوبة لرئيس دولة كبرى أن يكون محاصراً في بلده، ومحظوراً عليه أن يغادرها، للمشاركة في مؤتمرات قمة ولقاءات عالمية، أو أن يزور بلداناً اخرى.
حالة رعب من ملاقاة نفس المصير: ولا ننسى أن هناك حروباً كثيرة خاضتها الولايات المتحدة ضد بلدان عديدة، في العقود الأخيرة، على الأقل في فترات الرؤساء الذين ما زالوا على قيد الحياة. فإن مجرد شعورهم باحتمال أن تتقدم جهة، أو دولة ما بدعاوى جرائم حرب ضدهم، مثلما فعلوا هم مع بوتين، فإن ذلك سيثير حفيظةَ وغضبَ كلاً منهم شخصياً، ومعهم المؤسسة الحاكمة، وربما البلاد برمتها. ولذلك أعد الأمريكيون العدة لذلك اليوم.
“قانون غزو لاهاي”: وبما أن اليوم هو الغد الذي كنا كبشر نتمناه أو نخشاه، فمن أجله، وتحسباً له، كانت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قد أصدرت، عام 2002، حين كانت متورطة في حرب أفغانستان، وقبيل عامٍ من احتلال العراق، أصدرت قانوناً غريباً سمي بـ “قانون غزو لاهاي”، مقر محكمة الجنايات الدولية في هولندا، وذلك في تحركٍ استباقي لمثل هذا اليوم الذي نحن فيه. اليوم الذي استفزت فيه مذكرتا اعتقال نتنياهو وغالانت الولايات المتحدة، وصارت تخشى أن يتم ربما تقديم شكاوى جرائم حرب ضد مسؤولين أمريكيين، كباراً كانوا أو صغاراً. ومن أجل ذلك ولهذا الغرض، صدر “قانون غزو لاهاي”.
القانون يحمي الأمريكيين وحلفاءهم أمثال نتنياهو: استهدف القانون “حماية أفراد الجيش الأمريكي وغيرهم من المسؤولين المنتخبين والمعينين ضد الملاحقة القانونية الجنائية من قبل محكمة جنائية دولية لا تكون الولايات المتحدة طرفاً فيها”. وبما أن الولايات المتحدة ليست عضواً في المحكمة الجنائية الدولية، فإن القانون يمنح الرئيس الأمريكي سلطة استخدام “كل الوسائل الضرورية والمناسبة لإطلاق سراح أي فردٍ من أفراد القوات الأمريكية أو قوات حلفائها محتجزاً أو مسجوناً من قبل المحكمة الجنائية الدولية، أو نيابة عنها، أو بناءاً على طلبها”.
هذه الصلاحية الممنوحة للرئيس الأمريكي أدت إلى تسميته بـ “قانون غزو لاهاي”، لأنه يسمح باستباحة سيادة هولندا وغزوها، حيث تقع مدينة “لاهاي”، مقر محكمة الجنايات الدولية، بهدف حماية مسؤولين أمريكيين من الملاحقة القضائية، أو تحريرهم من الحجز.
غضب في بريطانيا: ومما لا شك فيه أن يثير التهديد الأمريكي، على لسان السيناتور ليندسي غراهام، غضباً في أوروبا. فقد استغرب السياسي والنائب البريطاني، جورج غالاوي، تهديد ليندسي غراهام للدول الحليفة، وقال غاضبا موجهاً كلامه له: ما قمت به ضرباً من الجنون. لا يتصرفه إلا رجل عصابات مثل “آل كابون”، من شيكاغو، بدلاً من دولة ديمقراطية عاصمتها واشنطن دي سي. أأنت تهدد بغزو الدول لأنها تلتزم بالقانون؟ وتفرض عليها عقوبات؟ ماذا دها نظامكم القائم على اتباع المواثيق والأعراف الدولية؟”
خلاصة القول: بداية شرخ بين ضفتي الأطلسي: لا يمكن للعقل الأمريكي أن يتخيل أن تلاحق محكمة الجنايات الدولية الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، على جرائم الحرب التي ارتكبتها القوات الأمريكية في أفغانستان والعراق، مثلاً؟ أو تلاحق الرئيس المنتهية ولايته، جو بايدن، عن حرب الإبادة وجرائم الحرب التي قامت بها القوات الإسرائيلية في قطاع غزة، بتمويل وتسليح ومساندة ودعم من إدارته؟ أو تلاحق باراك أوباما عن جرائم الحرب التي تواصلت في أفغانستان في عهده؟ أو تلاحق بيل كلينتون على جرائم الحرب جراء تدخلاته في الصومال وافريقيا عموماً؟ أو تلاحق دونالد ترامب على جرائم الاغتيال التي أوعز لقواته للقيام بها في ولايته الأولى؟ والقائمة تطول.
إذن، الأمريكيون يحترمون القانون داخل بلادهم بدليل محاكمات ترامب. أما إذا تعلق الأمر بالقانون الإنساني، الذي تعمل بموجبه محكمة لاهاي، والأعراف والمواثيق الدولية، فلا وزن لها عندهم، وهم ينظرون إلى أنفسهم أنهم فوقها.
فما صدر من تهديد للحلفاء في أوروبا لا بد أن يكون له أثر مستقبلي، وربما يكون بداية شرخٍ كبيرٍ في العلاقات بين ضفتي الأطلسي.