د. مؤيد محمد مقدادي
قسم علم النفس الإرشادي والتربوي – جامعة اليرموك
تؤدي الصراعات والحروب إلى كوارث وتعقيدات على مختلف المستويات، وتعد الحرب الدائرة حاليًا في قطاع غزة، في فلسطين المحتلة، من أخطر الحروب التي تشهدها المنطقة والعالم، بل وأكثرها دموية ووحشية. ومما يفاقم الآثار المترتبة على هذا العدوان، تكرار تعرض الشعب الفلسطيني في غزة لأشكال متعددة من الحروب؛ مما يزيد من معاناتهم، ويضاعف فرص ظهور المشكلات لديهم. ومن أبرز الانعكاسات المترتبة على هذا العدوان، تلك المرتبطة بالسياقات النفسية، والتي سيتم تقديم قراءة موجزة لها.
إن الحرب التي يشنها الكيان الصهيوني على قطاع غزة، تزيد فرص ظهور الاضطرابات النفسية المرتبطة بالصدمات والأزمات، وخاصة لدى الأطفال. فبالرغم من تعرض جميع أفراد المجتمع في غزة للقصف المتواصل، والتهديد المستمر بالموت، إلا أن الأطفال أكثر عرضةً لتلك الاضطرابات؛ وذلك بسبب نقص مهاراتهم وخبراتهم، وانخفاض مستوى استقلاليتهم. وهذا الأمر لا يقلّل – بطبيعة الحال – من ظهور تلك الاضطرابات لدى الراشدين، ولكنهم أكثر قدرة على التعامل مع الأعراض المَرضيّة، أو على أقل تقدير طلب المساعدة المناسبة.
إن حالة ” ترقب الموت ” المستمرة التي يعيشها الأشقاء في قطاع غزة أثناء الحرب، تزيد فرص ظهور اضطرابات القلق لديهم بدرجة كبيرة، ولنأخذ مثالًا على ذلك، الفتى الفلسطيني الذي أجاب بعد سؤاله عن حلمه المهني، بـ ” احنا بفلسطين ما بنكبر، لأنه بأي وقت ممكن نموت”، مما يدفعهم لخلق حالة من “التعايش” السلبي مع هذا التوقع، تحت أصوات الطائرات، وبين الأنقاض، بل والأشلاء في الكثير من الأحيان.
إن تكرار الحرب على قطاع غزة، يعزز الفكر الرافض للوجود الصهيوني (الإسرائيلي) في فلسطين، سواءً لدى الفلسطينيين، أو حتى لدى أبناء الدول العربية والإسلامية الأخرى، إضافة إلى الدول التي تحترم المعايير الحقيقية للعدالة الإنسانية؛ فالخبرات والصور والمشاهدات التي يراها أبناء الشعوب العربية والإسلامية، تخلق بنىً معرفيةً مملوءة بالكره والرفض للاحتلال الصهيوني، أكثر بكثير مما تنتجه الروايات والأحاديث عن أفعالهم، فهي تنشر الفكر المعارض للصهاينة، وتقوض السلام في المنطقة بمجملها؛ إذ غالبًا ما يُنظر إلى المجتمع الصهيوني كمجتمع دموي، تسوده الأنانية المفرطة، وحب الذات المبالغ فيه، على حساب الآخرين، على اختلاف منابتهم. وفي الوقت ذاته؛ يعمل هذا الأمر على بناء فكري لدى الأجيال الجديدة، ممتلئ بفكر المقامة والرفض، مع أنها لم تشهد الحروب السابقة.
إن حالة انتفاخ مفهوم الذات التي يعيشها الكيان الصهيوني بمجمله، يسهم في بناء تصورات معرفية مشوهة وغير منطقية لديهم، والذي غالبًا ما يرتبط بالدعم اللامحدود من قِبل دول العالم. إن الجيش الصهيوني يعيش حالة واضحة من التخبط والإحباط، والتي تظهر من خلال ردود الفعل غير المنضبطة، وغير العقلانية؛ إذ يتم الاستخدام المبالغ فيه للقوة؛ كرد فعل للعجز عن التعامل مع مصادر القلق لديهم، في محاولة منهم لرد جزء من اعتبارهم داخل مجتمعهم، وفي الوقت ذاته، تأكيد حالة السادية الصهيونية.
إن الحروب والاجتياحات المتكررة التي تعرض لها الشعب العربي الفلسطيني في غزة، تسهم من وجهة نظر أخرى، في تقوية الصلابة النفسية لديهم، والتي تظهر من خلال سرعة التعافي بعد انتهاء الحروب، والعودة إلى ممارسة الحياة الطبيعية. وبالنظر إلى طريقة تعايش أهل غزة مع هذه الظروف العصيبة؛ فإنه يُلاحظ أن تلك الطرق التي تعزز مناعتهم النفسية تنتقل باللاشعور الجمعي؛ فهي ليست قضية فردية، وإنما تسود أطياف المجتمع المختلفة.
إن ما يعزز الصلابة النفسية لدى الشعب الفلسطيني في غزة، هو خليط من العوامل الفكرية والعقائدية، والخبرات السابقة التي تعرضوا لها؛ مما جعلهم أكثر قدرة على تحمل الضغوط التي يصعب على أغلب المجتمعات الأخرى تحملها. ويمكن القول إن حالة الصمود التي يعيشها أبناء الشعب الفلسطيني في غزة، تعبر عن حالة استثنائية، يسطر أبعادها شعب غزة بأكمله، وذلك من خلال التعبئة بالفكر الإيجابي المرتبط بالتحرر من الاحتلال، واغتنام الفرص للخروج من تلك الحروب بتحقيق الانتصارات.
إن الحرمان من الحاجات الأساسية، سواء الفسيولوجية أو النفسية، يولّد نموذجًا إنسانيًا فريدًا، يجعل من الصعب – حتى على أبرع علماء النفس – التنبؤ بردود الفعل المرتبطة به؛ فنجد المقاومة الفلسطينية دائمًا ما تفاجئ الاحتلال الصهيوني بابتكار طرق ووسائل دفاعية إبداعية غير متوقعة، وهذا يتناغم مع محاولات الشعور بالأمن والاستقرار والاستقلال، والتي تُعد من الحاجات النفسية الأساسية.
وفي الاتجاه الآخر، يمكن ملاحظة حالة الإحباط والضعف والهشاشة النفسية لدى كل من الجيش والمجتمع الصهيوني؛ فحتى الأخبار أو الشائعات تقضُّ مضاجعهم، وتسكنهم الملاجئ لفترات طويلة. وفي كثير من الأحيان، تظهر لديهم كثير من الأعراض النفسية المَرضية؛ فحتى التعرض السطحي للمواقف الضاغطة، يجعلهم أكثر هشاشة نفسية. ومما يسهم في هذه الحالة، اعتياد المجتمع الصهيوني على حياة الرخاء، مما يقلل من قدرتهم على تحمل الضغوط.
إن القصف المستمر لجميع المراكز والمؤسسات المدنية، سواء الخاصة منها أو العامة؛ يدلّل على عدم وجود خطوط حمراء أو ضوابط قانونية أو أخلاقية، من خلال قصف المستشفيات، واستهداف الطواقم الطبية، والصحفيين، وفي الغالب هذا يهدف إلى إيصال رسالة نفسية واضحة، ترتبط بنشر الخوف والذعر، وزيادة درجة القلق، والدفع نحو كسر الإرادة، والتفكير باتخاذ قرارات مستقبلية غير مدروسة من قبل المقاومة، أو حتى محاولة استثمار الضغط الشعبي المعاكس. ولكن ما يحدث مختلف تماما، فنجده يسهم في خلق حالة من اللاتراجع والاستبسال والمبادرة إلى تقديم التضحيات، والذي يعد نتاجًا لفكر عقائدي متين لدى مختلف فئات أبناء غزة. كما يعمل ذلك على هدم الثقة في المرجعيات القانونية المختلفة، التي تتحيز صراحة للعدوان الصهيوني، وبناء بديل يستند إلى التشكيك فيها.
من المنطقي أن تدفعنا الأعداد الهائلة من الشهداء للتفكير مليًا بالآثار النفسية المترتبة على ذويهم؛ وفي الوقت ذاته العمل على وضع خطط إجرائية عملية للرعاية النفسية؛ للحد من آثار الصدمات عليهم، ومساعدتهم في التعبير عن مشاعرهم الجياشة، والتي إذا لم يتم التعبير عنها بشكل مناسب، ستظهر على الفرد بصور وأشكال أخرى، وتتحول إلى مخاوف ومصادر قلق غير مبررة في المستقبل.
وبالرغم من أهمية الآثار الجسدية المرتبطة بالحروب، والتي يصعب حتى مشاهدتها، كما لا يمكن تجاهلها، إلا أن الأمر لا يتوقف عند ذلك؛ فالبعد الجسدي يخلق أزمات في مجالات أخرى، وخاصة النفسي والمهني. فمسألة فقدان أحد أعضاء الجسم، أو التسبب بإعاقة جسدية، يخلق أزمة نفسية، تتطلب من الفرد التعرض لبرامج إعادة التأهيل النفسي التي تساعده على تقبل التغير الحاصل. وفي الاتجاه الآخر، قد يفرض هذا الأمر على الفرد الاستعداد للانخراط في مهنة جديدة؛ بسبب عدم قدرته – جسديًا – على الاستمرار في مهنته السابقة، مما يخلق أزمة متعددة المحاور، بما تتضمنه من أبعاد جسدية ونفسية واجتماعية وأسرية واقتصادية.
إن التعرض المتواصل والمكثف للقصف، وسماع دوي الانفجارات، ورؤية الموت في كافة المناطق المحيطة، يزيد فرص ظهور الأعراض الاكتئابية؛ وذلك كنتيجة لحالة اليأس المتوقعة، وسيطرة الضبابية على التخطيط المستقبلي الفردي، ولكن يبدو أن حالة الصلابة النفسية التي يعيشها أهل غزة، تعزز صمودهم، وتزيد قدرتهم على تحمل ضريبة هذا الصمود، بتقديم الشهداء، وفقدان للممتلكات، وتحمل مشاق الحرمان، وطرق التضييق المختلفة التي يستخدمها العدو الصهيوني.
وأخيرًا، من المفترض إعادة رسم معالم سيكولوجيا المقاومة، من خلال الارتقاء إلى مستوى الصمود والقوة والفعالية النفسية التي يسطرها أهل غزة، لأن رباطة الجأش، والقدرة على التحدي، والمواجهة الفاعلة، والتخطيط العملي، واستغلال عنصر المباغتة، والتضحية بالغالي والنفيس، واستخدام الحرب النفسية؛ كلها مؤشرات تؤكد أن النصر لأصحاب الأرض المقاومين، فهم – بغض النظر عن حجم الخسائر – يضربون أروع الأمثلة في التضحية والفداء والصمود