صدى الشعب – كتب: د.عايِشُ النَّوايسَةُ، خَبِيرٌ وَمُسْتَشارٌ تَرْبَوِيٌّ.
يُعَدُّ التَّفْكِيرُ إِحْدَى السِّمَاتِ الَّتِي تُمَيِّزُ الْإِنْسَانَ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الْكَائِنَاتِ الْأُخْرَى، وَهُوَ مَفْهُومٌ تَتَعَدَّدُ أَبْعَادُهُ وَتَخْتَلِفُ حَوْلَهُ الْآرَاءُ، مِمَّا يُعَكِّسُ تَعْقِيدَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ وَتَشَعُّبَ عَمَلِيَّاتِهِ. وَيَتِمُّ التَّفْكِيرُ الْمَنْهَجِيُّ الْمُنَظَّمُ مِنْ خِلَالِ سِلْسِلَةٍ مِنَ النَّشَاطَاتِ الْعَقْلِيَّةِ الَّتِي يَقُومُ بِهَا الدِّمَاغُ عِنْدَ تَعَرُّضِهِ لِمُثِيرٍ تَسْتَقْبِلُهُ وَاحِدَةٌ أَوْ أَكْثَرُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْخَمْسِ الْمَعْرُوفَةِ. وَيَتَضَمَّنُ التَّفْكِيرُ الْبَحْثَ عَنْ مَعْنًى، يَتَطَلَّبُ الْوُصُولَ إِلَيْهِ تَأَمُّلًا وَإِمْعَانَ النَّظَرِ فِي مُكَوِّنَاتِ الْمَوْقِفِ أَوِ الْخِبْرَةِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الْفَرْدُ.
لِذَلِكَ، أَوْلَى التَّرْبَوِيُّونَ اهْتِمَامًا بَالِغًا بِالْمُتَعَلِّمِ، مُرَكِّزِينَ عَلَى مَظَاهِرِ نُمُوِّهِ، وَاحْتِيَاجَاتِهِ، وَمَطَالِبِ كُلِّ مَرْحَلَةٍ عُمْرِيَّةٍ، وَعَمِلُوا عَلَى تَوْفِيرِ الْإِمْكَانَاتِ الَّتِي تَضْمَنُ نُمُوًّا سَلِيمًا وَمُتَكَامِلًا. فَقَدْ لَاحَظُوا أَنَّ الْإِنْسَانَ يَمُرُّ بِمَرَاحِلَ نَمَائِيَّةٍ مُمَيَّزَةٍ، تَتَّسِمُ كُلٌّ مِنْهَا بِخَصَائِصَ فَرِيدَةٍ تَخْتَلِفُ عَنِ الْأُخْرَى، مِمَّا يَجْعَلُ لِكُلِّ مَرْحَلَةٍ إِمْكَانَاتِ تَعَلُّمٍ مُخْتَلِفَةٍ. وَمِنْ هُنَا تَبْرُزُ أَهَمِّيَّةُ أَنْ يَفْهَمَ الْمُعَلِّمُونَ هَذِهِ الْمَرَاحِلَ وَخَصَائِصَهَا لِيَتَمَكَّنُوا مِنَ التَّعَامُلِ مَعَ الْمُتَعَلِّمِ بِكَفَاءَةٍ، وَتَقْدِيمِ مَوَادٍّ وَأَنْشِطَةٍ تَعْلِيمِيَّةٍ تَتَنَاسَبُ مَعَ احْتِيَاجَاتِهِ. وَيُسَاعِدُ هَذَا الْفَهْمُ عَلَى تَطْبِيقِ مَبَادِئَ تَعَلُّمٍ قَائِمَةٍ عَلَى التَّفْكِيرِ الْمُنَظَّمِ، بِمَا يُمَكِّنُ الْمُتَعَلِّمَ مِنْ مُعَالَجَةِ الْمَعْلُومَاتِ، وَاسْتِيعَابِهَا، وَدَمْجِهَا فِي بِنْيَتِهِ الْمَعْرِفِيَّةِ، وَبِالتَّالِي تَحْقِيقِ تَعَلُّمٍ فَعَّالٍ.
وَلَمْ يَعُدِ التَّدْرِيسُ مُقْتَصِرًا عَلَى نَقْلِ الْمَعْلُومَاتِ، بَلْ تَحَوَّلَ إِلَى عَمَلِيَّةٍ تَهْدِفُ أَسَاسًا إِلَى تَزْوِيدِ الطَّلَبَةِ بِأَدَوَاتِ التَّفْكِيرِ. وَيَتِمُّ ذَلِكَ مِنْ خِلَالِ تَعْزِيزِ قُدُرَاتِهِمْ عَلَى التَّفْكِيرِ، وَتَمْكِينِهِمْ مِنْ مُعَالَجَةِ الْمَعْلُومَاتِ بِذَكَاءٍ، بِمَا يَضْمَنُ أَقْصَى اسْتِفَادَةٍ مِنْهَا فِي مُخْتَلِفِ جَوَانِبِ الْحَيَاةِ. وَالنَّتِيجَةُ جِيلٌ قَادِرٌ عَلَى الِاخْتِيَارِ الْوَاعِي، وَالتَّجْدِيدِ الْمُسْتَمِرِّ، وَالِابْتِكَارِ الْفَعَّالِ، وَمُمَارَسَةِ مَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ الْعُلْيَا فِي مُخْتَلِفِ الْمَجَالَاتِ. كَمَا يُغْرِسُ هَذَا النَّهْجُ فِي الطَّلَبَةِ رُوحَ التَّعَلُّمِ الذَّاتِيِّ وَالْبَحْثِ الدُّؤُوبِ عَنِ الْمَعْرِفَةِ، مِمَّا يُعِدُّهُمْ خَيْرَ إِعْدَادٍ لِمُوَاجَهَةِ تَحَدِّيَاتِ الْحَاضِرِ وَمُتَطَلَّبَاتِ الْمُسْتَقْبَلِ.
وَمِنْ خِلَالِ التَّفْكِيرِ يَتَعَامَلُ الطَّلَبَةُ مَعَ مَا يُحِيطُ بِهِمْ فِي بِيئَتِهِمْ، كَمَا يُعَالِجُونَ الْمَوَاقِفَ الَّتِي تُوَاجِهُهُمْ مِنْ دُونِ الْقِيَامِ بِفِعْلٍ ظَاهِرِيٍّ؛ فَالتَّفْكِيرُ سُلُوكٌ يَسْتَخْدِمُ الْأَفْكَارَ وَالتَّمَثِيلَاتِ الرَّمْزِيَّةَ لِلْأَشْيَاءِ وَالْأَحْدَاثِ غَيْرِ الْحَاضِرَةِ، أَيِ الَّتِي يُمْكِنُ تَذَكُّرُهَا أَوْ تَصَوُّرُهَا أَوْ تَخَيُّلُهَا. وَهَكَذَا تَغَيَّرَتِ الْغَايَةُ مِنَ التَّعْلِيمِ مِنَ الْحِفْظِ وَالتَّلْقِينِ إِلَى التَّعَلُّمِ وَالتَّمْكِينِ فِي جَانِبِ الْمَهَارَاتِ وَالْكِفَايَاتِ، إِذْ إِنَّ مَهَارَاتِ الْعَيْشِ فِي الْقَرْنِ الْحَادِي وَالْعِشْرِينَ تَتَطَلَّبُ طَلَبَةً مُفَكِّرِينَ وَاعِينَ قَادِرِينَ عَلَى حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ وَمُوَاجَهَةِ التَّحَدِّيَاتِ وَالصُّعُوبَاتِ.
وَمِنْ هُنَا تَبْرُزُ الْحَاجَةُ إِلَى تَعْلِيمِ مَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ فِي رِيَاضِ الْأَطْفَالِ وَالْمَرَاحِلِ الِابْتِدَائِيَّةِ وَجَمِيعِ الْمَرَاحِلِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَذَلِكَ لِمَا لِهَذِهِ الْمَرْحَلَةِ مِنْ أَهَمِّيَّةٍ فِي تَكْوِينِ شَخْصِيَّةِ الطَّلَبَةِ وَتَحْدِيدِ اتِّجَاهَاتِ نُمُوِّهِمْ وَطَرِيقَةِ تَفْكِيرِهِمْ مِنْ خِلَالِ أَدَاءِ الْمُهِمَّاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ. وَيَنْبَغِي أَنْ يُلَاحِظَ الْمُتَعَلِّمُ وَيُنَظِّمَ طَرِيقَةَ تَفْكِيرِهِ أَثْنَاءَ أَدَاءِ الْمُهِمَّةِ، عَبْرَ مِيكَانِزْمَاتٍ ذَاتِيَّةٍ تَتَمَثَّلُ فِي التَّخْطِيطِ، وَالتَّوْجِيهِ، وَالِاسْتِثَارَةِ الْعَقْلِيَّةِ، وَاخْتِبَارِ الْفُرُوضِ، ثُمَّ الْمُرَاجَعَةِ وَالتَّقْيِيمِ، وَبِطَرِيقَةٍ مَنْهَجِيَّةٍ تَنْعَكِسُ عَلَى أَدَائِهِ لِلْمُهِمَّاتِ التَّعْلِيمِيَّةِ، وَتُؤَثِّرُ إِيجَابًا عَلَى تَعَلُّمِهِ وَجَوْدَةِ عَمَلِيَّاتِ التَّعْلِيمِ وَالتَّعَلُّمِ.
إِنَّ امْتِلَاكَ الطَّلَبَةِ لِمَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ الْمَنْهَجِيِّ الْمُنَظَّمِ مِنْ خِلَالِ الْأَنْشِطَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ وَتَضْمِينِهَا فِي عَمَلِيَّاتِ تَفْكِيرِهِمْ، يُمَثِّلُ وَسِيلَةً تَكْشِفُ عَنْ مَدَى اهْتِمَامِهِمْ بِعَمَلِيَّاتِهِمُ الْعَقْلِيَّةِ وَفَهْمِهِمْ لَهَا. وَيَتَجَلَّى ذَلِكَ فِي التَّخْطِيطِ الْوَاعِي لِلِاسْتِرَاتِيجِيَّاتِ، وَمُرَاقَبَةِ الْفَرْدِ لِلْخُطُوَاتِ الَّتِي يَتَّخِذُهَا أَثْنَاءَ حَلِّ الْمُشْكِلَاتِ، وَتَقْيِيمِ كَفَاءَةِ تَفْكِيرِهِ فِي إِنْجَازِ عَمَلِهِ. كَمَا أَنَّ تَكَامُلَ الْأَنْشِطَةِ التَّعْلِيمِيَّةِ دَاخِلَ الصَّفِّ وَخَارِجَهُ يُوَفِّرُ بِيئَةَ تَعَلُّمٍ غَنِيَّةً وَمُتَنَوِّعَةً، تُعَزِّزُ لَدَى الطَّلَبَةِ الْقُدْرَةَ عَلَى التَّفْكِيرِ بِعُمْقٍ، وَتَحْلِيلِ الْمَعْلُومَاتِ بِفَعَالِيَّةٍ، وَإِصْدَارِ أَحْكَامٍ مُسْتَنِيرَةٍ، وَحَلِّ الْمُشْكِلَاتِ بِطُرُقٍ إِبْدَاعِيَّةٍ، وَهِيَ جَمِيعُهَا مُكَوِّنَاتٌ أَسَاسِيَّةٌ لِمَهَارَاتِ التَّفْكِيرِ الْمَنْهَجِيِّ الْمُنَظَّمِ.






