ماجد توبه
قبل عدة أشهر، وقبل طوفان الأقصى وانطلاق العدوان على قطاع غزة، خرج رئيس الكيان الاسرائيلي اسحاق هيرتزوغ ليحذر مجتمعه المنقسم من خطر وجودي لكيانه يلوح بالافق عندما استحضر مقاربة ان اي كيان يهودي نشا عبر التاريخ لم يعمر اكثر من 80 عاما قبل ان يصيبه الخراب والانتهاء، مسقطا هذه الحقيقة التاريخية على مستقبل اسرائيل الحالية للتحذير من تصاعد حدة الانقسامات الداخلية.
لم يكن طوفان الأقصى، بكل ابعاده وتداعياته الاستراتيجية، قد وقع عندما حذر هيرتزوغ من احتمالية انتهاء كيان اسرائيل، بل كانت مناسبته الانقسام الخطير في المجتمع الاسرائيلي بين تيار ديني متطرف ومنغلق آخذ في التوسع والتغول على السلطة وبين تيار ليبرالي علماني يريد استمرار الطابع الغربي المنفتح نظاما للحياة والسلطة في اسرائيل، وهو انقسام فجرته واظهرته للعلن بحدة خلافات ما سميت بالاصلاحات القضائية، والتي سعى من خلالها التيار الديني المتطرف بتحالفه مع شيخ المتطرفين نتنياهو السيطرة على السلطة القضائية بعد استكمال السيطرة على السلطتين التنفيذية والتشريعية.
لم ينته ذلك الانقسام الاسرائيلي الداخلي، وأن حيدته مرحليا الحرب العدوانية على غزة، لكنه يبقى مشتعلا تحت رماد “التوحد والخوف المصيري” الذي جلبه طوفان الاقصى، الذي كسر ثوابت “وطنية” مستقرة في الوجدان الاسرائيلي، من هشاشة الكيان رغم كل الاسلحة وفائض القوة لديه، وانهيار اسطورة الجيش الذي لا يقهر، وفشل المنظومة العسكرية والامنية والسياسية الاقوى في الاقليم في انهيار 7 اكتوبر، وتدمير فرقة غزة وضرب اسرائيل في جوهر وجودها كقاعدة عسكرية ضاربة ورادعة متقدمة للغرب واميركا، عندما احتاجت لفتح كل مخازن الغرب العسكرية والدعم السياسي والمالي لتصمد امام انهيار وشيك امام المقاومة.
لكن هل خفت وقع نبوءة هيرتزوغ مع التحييد المرحلي لتداعيات الانقسام الداخلي؟! الواقع موضوعيا يقول غير ذلك، بل إن تساؤل النبوءة والتحذير بات اكثر مشروعية واسرائيل تغرق في مستنقع غزة ومقاومتها العنيدة وثبات الشعب الفلسطيني على ارضه رغم مجازر الابادة. لقد بات سؤال الوجود أمام اسرائيل أكثر إلحاحا وهي تبحث عاجزة عن صورة نصر تمحي فيه الهزيمة الاستراتيجية الساحقة لطوفان الاقصى في 7 اكتوبر ولا تجده، بل ولا يمكن ان تجده حتى لو دمرت غزة كلها، فقد اسس النصر الفلسطيني ذلك اليوم عبر مقاومة، متواضعة السلاح والامكانات، لاختراق الوعي واليقين الاسرائيلي بامكانية الهزيمة وغياب الامن والاستقرار في هذه البقعة امام المحتل الذي بقي يعيش وهم فائض القوة والاستقرار والردع.
افضل من يعبر عن حالة عدم اليقين واسئلة المصير الوجودي لهذا الكيان اليوم هم ربع مليون مستوطن من نازحي غلاف غزة وشمال فلسطين واكثر من نصف مليون مهاجر فروا من الكيان، ممن لم يعد احد قادر على اقناعهم وطمانتهم بان “طوفانات” وضربات قاسية واستراتيجية اخرى ما تزال ممكنة بل واقرب اليهم من حبل الوريد، سواء من غزة نفسها، او من المقاومة اللبنانية، او من حرب اقليمية اوسع مع ايران وغيرها، وان كل فائض القوة الاسرائيلية والدعم الامريكي والقدرة على التدمير الواسع لدى العدو لن تمنع من تلقي الاسرائيليين ضربات قاصمة وزلزلة امنهم واستقرارهم واقتصادهم.
وفي ظل توجه المجتمع الاسرائيلي بغالبيته الى التطرف الديني والاحزاب المنغلقة دينيا وتوسع سطوة هذه الاحزاب على الحياة العامة تكتمل الدائرة الشيطانية على رؤوس فئات واسعة بهذا المجتمع من ليبراليين وغربيي التوجه بنظام حياتهم، فيصبح الخطر الوجودي بالنسبة لهؤلاء ذا بعدين، داخلي مرعب، وخارجي اكثر رعبا وتهديدا لهذا الكيان المصطنع والهش في جوهره.
دع عنك حالة الهيجان والغرائزية المتوحشة وروح الانتقام الدموية التي تلف كيان الاحتلال اليوم.. فالامر لن يطول حتى تصبح نبوءة هيرتزوغ نبوءة اغلب الاسرائيليين وسؤال الوجود وقدرة هذا الكيان الهش على البقاء والعربدة مطروحا بقوة على كل لسان اسرائيلي.. وان غدا لناظره قريب!