يا بني .. لا تسأل
بقلم الدكتورة ميرفت سرحان
كان يجلس إلى شرفته عندما دخل عليه حفيده الثلاثيني يحيى، الذي كان يبدو عليه الضيق .. رحّب به، وسأله: ماذا بك يا بني؟! .. قال يحيى: أنا حزين يا جدي .. قل لي يابني، ماذا هنالك؟! .. آهٍ يا جدي آه .. أشعر باليأس، والإحباط .. حاولت مرارًا وتكرارًا أن أراقب الناس حتى أستطيع تفسير أسباب سلوكاتهم، وفهم دوافع تصرفاتهم .. ولكن دون جدوى .. أراهم يخافون فلان، وليس بينهم وبينه صلة .. ويتوددون إلى علان، دون أن يكون لهم عنده مصلحة .. يستهزؤون بمشاعر أحدهم، دون أن يسيء لهم .. ولا يتقبلون الآخر، وبلا سبب .. هذا يجبر زميله أن يدخل حربًا ليس طرفًا فيها .. وآخر يجبر صديقه أن يتحبب إلى خصمه .. يستغلون ظروف هذا .. ويبتزون ضعف ذاك .. (كذب .. غش .. خيانة .. كره .. وغيرها..) .. وما يؤلمني يا جدي أكثر، أنني لم أعد أميّز بين اللئيم والطيب ..
تعال معي يا بني نصعد إلى أعلى الجبل .. وبعد أن جلسوا؛ قال الجد: اعطيني يدك .. اقبضها .. والآن ضعها على الأرض وحاول أن تحفر بقوة .. ولكن الأرض صلبة جدًا يا جدي .. أعلم، حاول قدر استطاعتك، ولا تيأس .. وكرر المحاولة .. بعد فترة لا بأس بها من المحاولات، قال يحيى: يا جدي؛ كل ما استطعت فعله هو أن أحفر هذه الحفرة الصغيرة! .. تبسم الجد، وقال: هل ترى عمق ما حفرت يا بني .. إنه يشبه مقدار ما يمكنك فهمه، بل معرفته عن نفوس البشر .. نعم، لا تستغرب يابني .. إن البحث في نفوس البشر .. كالبحث عن عدد شعيرات جذر شجرة يمتد في عمق الأرض ..
لذلك؛ دعك يا بني من البحث عن الأسباب، والتفتيش وراء الدوافع .. سأنقل لك بعضًا من خبرتي بالناس، على سبيل النصائح، فاستمع رعاك الله ..
بعض الناس لا يستطيع النوم إذا أساء لأحد ما .. ومنهم من لا يستطيع النوم إلا إذا أساء لأحد ما .. وسؤالك عن سبب فعله لذلك .. أشبه ببحثك عن ابرة في كوم قش .. هذه نفوس؛ قلوبها مصابة بمرض عضال مزمن .. لم يعد يجدي معه تدخل أطباء .. ولا تناول دواء ..
وبعض الناس لديه مزاجية في التعامل مع الآخرين .. أشبه بأقصى حالات مد أمواج البحر وجزره، تحتاج إلى ما وراء البحث العلمي لفهم فعله .. لا تقلق منهم، ولا تكترث لمزاجيتهم .. لكن .. قف بعيدًا عن شاطئهم، بحيث لا يصل إليك مد مزاجيتهم .. وحدد إطارًا لحدود علاقتك بهم .. ولو أصبح عدو الأمس صديق اليوم، أو العكس .. فانتبه .. إن تغير مشاعرك تجاه بعض الناس، لايعني أن سلوكهم قد تبدل ..
وكما أن بعض القلوب طيبة .. فإن بعض الناس لديها قلوب قاسية .. لا تحاول أن تلينها .. فهذا أشبه بمغامرة ترويض الأسد، وأنت لست مدربًا للأسود ..
وكما تسعدك بعض الناس برفقتها .. فهنالك، من يجعلك لا تمتلك إلا أن تعتذر من نفسك، لأنك سمحت لها بالاقتراب منهم ..
اسمع يا بني: قد يزعجك أحدهم بكلمة .. وقد يضايقك آخر بنظرة .. قد يستفزك البعض بهمز ولمز .. وقد يغيظك الآخر بموقف .. وقد تقع ضحية مؤامرة .. وقد يخذلك من تحب .. ويحبطك من أحسنت إليه .. وقد يؤذيك من لا صلة أصلًا بينك وبينه .. وعندها سوف تصر على تغيير سلوكك .. أو تحويل مبادئك .. أو قد تقرر أن تبدل من أخلاقك .. لاعتقادك أن هذا يجعلك أكثر كفاءة في المواجهة ..
إن أردت يا بني مني النصيحة .. لا تفعل .. إياك أن تتغير .. فمقدار قوتك يتمثل في مقدار ثباتك .. وأزيد على ذلك؛ لا تتمنَ لأحد الشر ولا تأمل له الأذى .. فمراد الله فيه -وفيك- واقع لا محالة، والدنيا تدور وتتغير وتتبدل، وقد يسدد دينك غيرك .. لذا؛ لا تلطخ قلبك بالبغض ولا تلوثه بالغل ..
وقد يسعدك أحدهم بكلمة .. وتتفاءل لنظرة .. وترفع معنوياتك همسة .. قد يقترب منك من لم تتوقع منه ذلك .. وقد يحسن إليك من أسأت إليه .. وقد يطلب عشرتك من أشحت عنه .. عندها سوف تُعجب بنفسك .. وقد تشعر بالكِبَر، وتبدأ بالتعالي ..
وإن أردت مني النصيحة .. لا تفعل ذلك .. إياك أن تتغير .. فمقدار قوتك يتمثل في مقدار ثباتك .. ومشاعر الناس تجاهك تتغير، وأفكارهم نحوك تتبدل .. فلا تجعلهم المحرك لأدائك ..
وأخيرًا أبشرك يا بني .. لا تبذل جهدًا، ولا ترهق نفسك .. فلن تفهم مدارك أقوال الناس .. ولن تعي مبررات أفعالهم ..
يقول ربي تبارك وتعالى: “فَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ خَيرًا يَرَهُ * وَمَن يَعمَل مِثقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ” .. (الزلزلة: ٨،٧) ..