كتبت : اماني فايز البطاينه
تتأمل الكثير من الأحداث التي مرَّت في آخر عشر سنين، كان لا بد لها من أن تحيل كلمة وطن إلى شيء آخر غير الذي أدركَته منذ أول نشيدة وطنية أنشدتها في طابور الصباح بكل إباء.
كلما ذُكرَت كلمة وطَن، مرَّ في بالها صوراً دون غيرها:
في عمر الرابعة وأكثر، في الطريق بين بيتهم في المدينة والقرية التي تضم بيت جدها، وردة وماجدة الرومي تصدحان في المذياع وهي تخرج بكلها من النافذة على كل الطريق تحتضن كل جبل وحرش وغابة وأفق وسهل ووادي وشجرة وعشبة ووردة … تتنفس كل ذلك في صدرها … فيصبح الوطن في قلبها نبضات وفي صدرها أنفاس.
منذ نعومة أظفارها، تعين سيدات العائلة في لملمة الخبيزة والعلت، كانت وما زالت الخبيزة والعلت من أكلاتها المفضلة، وما زالت “الشعاشيل” ثقيلة اللفظ على لسانها، ولكن طعم “الجعدة” فيها هو طعم الوطن، كلما ذاقت لقمة منها … استشعرت معنى أن يكون لك “وطن” يصدِّر الشعاشيل والمكمورة والمنسف والمطابق والرشوف والفناقش واللزاقيات.
في عمر السادسة، كان عمها دائما يمازحها ويقول لها: “تروحي مشوار؟” فتجيب: وين؟” فيجيبها بضحك: “على قلاع الراس”، تكتنفها الغبطة كأنه مكان سحري، واستمرت بالضغط على عمها إلى أن أخذها إلى تلك الهضبة الفارغة إلّا من حجرين أصلدين … غطت البيوت “قلاع الراس” ولكن ما زالت الصورة عالقة في رأسها على أنها قمة الوطن التي وقفت عليه طفلة فشعرت أن هذه الأرض التي حولها كلها أرضها ترمح فيها الروح طفلة بجدائل ذات عنفوان.
في عمر العاشرة عندما كان والدها وإخوتها يتابعون مباراة المنتخب الوطني مع أحد الفرق في حماس وتوتر عالي؛ ذهبت بين الشوطين وصلت ركعتين لله ليفوز منتخب بلادها، دعت الله والدموع تكلل وجنتها الطفولية، أن يا رب اجبر خاطر كل مواطن في بلدي بأن يفوز منتخبنا واجبر خاطر الخاسرين أيضا، وبدأت وقتها تتساءل لماذا لا بد أن يكون هنالك فوزٌ وخسارة؟! الا يمكن أن تفوز الأوطان كلها؟
في عمر الرابعة عشر وفي غربتها مع أهلها في بلد عزيز كريم؛ يجتثها الشوق مثل سكين من مكانها وزمانها وتعافر كل أسباب العودة، حتى لو وحدها، لترى تلك الوجوه التي ألِفت واللهجة التي حفِظت … لترى وتسمع الوطن فيهم.
في عمر السادسة عشر؛ تعود لأرض الوطن والفرق بين الصورة التي في بالها وأرض الواقع “للناس” نفسهم لا للوطن، تنهك قلبها الصغير فيصبح الوطن المكاني غربة … وتعود مغتربة عن الناس ساكنة الوطن الذي في بالها.
فيما بعد ذلك
بعد كل سفر وفي الطريق من المطار إلى البيت؛ عشب الشوارع العشوائي هو الوطن ويضاهي جمال كل عشب منسق في أكثر البلاد جمالا ورفاهية، النسمة التي تلاقيها والبسمة الجافة التي تناديها؛ كل ذلك وطن.
في الشوارع والمطبات، التي تضاهي عدد مطبات الحياة لأبناء هذا الوطن، هنالك وطن أيضا.
في الشوارع المطفأة الأنوار ترشيدا للكهرباء … هنالك وطن مضاء في قلوبنا.
في شح المياه وانقطاعها هنالك وطن ريّاً نهديه الوطن من ريف أعيننا.
في الألم المرمّى على الجنبات والفرح الذي يُنتزع من النزاعات، ترى الوطن أيضا.
لا تعلم ما الذي حدث؟
متى صار الوطن هذا الصراخ المستمر الذي تسمعه صبحا مساء؟
متى صار الوطن هذه السخرية السوداء والتنمُّر الذي يحيط بالكل؟
متى صار من يتغنَّى بالسماء والأرض … ليس من الوطن؟
تبحث عن الوطن في كل ذلك …
تبحث عن أبنائه … عن أبناء الوطن اللذين ركعت لله في عمر العاشرة ليجبُر خاطرهم، أين هم من خاطر الوطن؟
أردن يا سهماً تعالى، إذا النوازل بكَ، نَدَّت وعُدَّت
أردنُ يا سمانا، إذا الأرض، بنا ضاقت، وعلينا الصروف اِشتدَّتَّ
أردنُ يا أمٌّ برَّت بنا، فضقنا بها، وعنا يوما ما صدَّت
أردن يا جبالاً سندت، يا سماءً حوَت، يا سهولا، لضيقنا امتدَّت
أردن في البال، يا واحةَ الظمآن، إذا جفت الأنهارُ، روت العَطَاشى، واحدا منهم ما ردَّت
أردنُ يا “ربعي”، النشامى بكل، من استجارَ، حبالَ رحمتهم، ما يوماً قُدَّت