يتصور مراقبون أن وباء “كوفيد 19” سيكون نقطة مرجعية في تاريخ البشرية، لا يكون العالم بعدها كما كان قبلها. ولم يعد الحديث يجري عن “عودة إلى الطبيعي” بمعنى استعادة أوضاع ما قبل الوباء، وإنما عن “طبيعي جديد”، بعد انتهاء الوباء، لا تعود فيه الأشياء كما كانت. وتتعلق التغيرات –الحادثة منها والمتوقعة- بالأشياء الكبيرة والصغيرة، من الجيوسياسة، إلى العولمة، والاقتصاد، والحوكمة، والعمل، إلى نفسية الأفراد وسلوكهم، وإلى الممارسات والعادات الاجتماعية.
البعض رأوا في الوباء –على سوئه المؤكد- فرصة لمراجعة بعض الأشياء. قال البعض أن الحظر والانقطاع عن الأقارب والأصدقاء كان فرصة لاختبار العلاقات جميعا، واكتشاف الضروري منها والفائض. وفي مجتمعاتنا أحدثت القيود التي تطلبها الوباء وقف الكثير من الممارسات، من الزيارات المفرطة والمآدب و”الواجب الاجتماعي، إلى المصافحة والعناق والتقبيل. وإلى حد ما، ثبتت وجاهة ما كان قد دعا إليه الجريئون أيام “إنفلونزا الدجاج” و”إنفلونزا الخنازير” وما شابه: التخلي عن المصافحة بالأيدي واستبدالها بشيء جديد، مثل التحية على طريقة الشرق-آسيويين، بضم اليدين معا وانحناءة خفيفة، أو حتى التلامس بالأكواع.
عندنا سيقول الكثيرون: لا يجوز. لا ينبغي التخلي عن عاداتنا العريقة الدافئة التي ميزتنا. يجب العناق والتقبيل في كل مناسبة. يجب أن يذهب في جاهة الخطبة أكبر عدد من الناس والسيارات. يجب أن يولم العريس لمئات المدعوين، ويستأجر قاعة أو يقيم سرادقات ولا يترك قاصيا ولا دانيا إلا دعاه. يجب أن يُقام سرادق العزاء أياما يهلك خلالها أهل الراحل جسديا وماليا، ويجب أن يُطعموا الحاضرين، غداء وعشاء، كل ثلاثة أيام العزاء. يجب أن يدور الموظف الغلبان كل أيام العيد على بيوت الأقارب من أقصى الوطن إلى أقصاه، ويوزع “العيديات” التي لا ينبغي أن تكون قليلة فتخجله، ربما لقريبات أغنى منه. ويجب أن يولم في رمضان حتى لو استدان وأراق ماء الوجه. والفكرة: نحن أقارب حاتم الطائي الذي ذبح فرسه حتى يبيض وجهه.
لا عيب أساسي في أن يكون المرء كريما مبسوط اليد. لكن هناك عيبا في إرهاق صاحب الحاجة نفسه للجود بما لا يملك، على حساب حاجاته وحاجات عائلته، من أجل المظهر الاجتماعي والوفاء لسياق لا يراعي التفاصيل. وربما خففت قيود الوباء الشعور بضرورة ممارسات كان يمكن تدبر الأمور بدونها. ربما لم تتضاعف آلام الذين فقدوا أحبة خلال الجائحة من عدم إقامة مراسم تتطلب تدبر أجور السرادقات وأثمان الولائم. ربما لم يفتقدوا الدوام ثلاثة أيام مرهقة من الصباح إلى المساء في بيت عزاء، مضطرين إلى كامل اليقظة والتركيز بينما يستقبلون عشرات أو مئات ويجاملون كل واحد منهم. ربما يكفي تضامن العائلة القريبة معه في الإجراءات وللسلوى، والرضى بتعزية الأبعد بمكالمة أو رسالة نصية.
ربما يمكن الفرح بحفل زفاف ململم و”فاردة” صغيرة بأبسط المتطلبات وأقل المصاريف، ولا يكون السفر من العقبة إلى إربد للتواجد ساعة أو اثنتين في صالة عرس واجبا تجاه قريب بعيد، يعني تركه سواد الوجوه.
ورمضان؟ شأن روحي يخص العلاقة بين العبد وخالقه، مبدؤه التقشف والتأمل وترك المتع والدنيويات. ولا ينبغي أن يكون مناسبة للتظاهر والاستنزاف والهدر والإسراف في كل شيء. لكن الممارسات أثقلته بما لا ينبغي أن يحتمل، حتى أصبح الناس يتحسبون له باعتبار كلفته ومصاريفه ومتطلباته التي يجلب عدم توفرها الغم والعصبية. وقد جعلوه مناسبة للمشاجرات وحوادث السير، والولائم التي قد تثقل الظهر.
يؤمل بالتأكيد أن يأتي رمضان المقبل وقد ذهب الوباء وأصبح ذكرى. لكن بالوسع انتهاز خبرة الوباء والحظر للتخفف من سلوكيات مرهقة جسديا ونفسيا وماليا. ولا يعني ذلك قطع العلاقات وبرود العاطفة وقطع الأرحام، أو البخل مع اليُسر. إنه يعني التصرف حسب الإمكانيات وعدم مفاقمة أسباب الضيق مراقبة للناس وخضوعا لنير العادات غير المحسوبة عندما تغيرت الظروف. ومع أن البعض طالبوا بالاحتفاظ بهذه العادات مع الوباء، حتى لو عنى ذلك تفشي الوباء ووفاة الآلاف، فإن التجربة أثبتت أن بالوسع فعل الأشياء بكلفة أقل ووفق منطق أكثر واقعية. قد يتغير العالم، ونحن معه، ويأتي مع الحرية الجديدة “طبيعي جديد” بلا عناق وتقبيل حيث لا لزوم، ولا ثقافة “العزوة” والحشود والولائم كشروط وجودية.