وقفت على الضد من فكرة العقد الاجتماعي الجديد التي تبناها تيار ليبرالي في الأردن، ودار حولها سجال واسع بعد أن وردت في بيان حكومة الدكتور عمر الرزاز، ليس لأنني أعارض التجديد، بل لقناعتي بأن الدستور الأردني هو العقد الوحيد الذي ينظم شؤون الدولة والعلاقة بين مؤسساتها، أما الاصلاح والتجديد فطريقهما تطوير التشريعات وتبني مشروع ثقافي سياسي لتجديد المفاهيم في المجتمع، وتكريس ثقافة التنوع والديمقراطية.
لكن مثلما عارضت اختلفت مع طرح العقد الاجتماعي الجديد، أجد نفسي مختلفا أيضا مع مفهوم البيعة، كتعريف لعلاقة مؤسسة العرش مع الشعب.
البيعة حصلت في التاريخ الأردني لمرة واحدة، بيعة أبدية، عندما قدم الهاشميون بقيادة الأمير”الملك” عبدالله الأول للأردن وأطلق مشروع تأسيس الدولة، التي حلم وسعى أن تكون نواة للدولة العربية الكبرى التي أجهضها الاستعمار البريطاني الفرنسي باتفاقيات التقسيم وبوعد بلفور الذي سلخ فلسطين عن جسد الأمة لحساب مشروع استعماري صهيوني.
بايع الأردنيون بمختلف مكوناتهم الاجتماعية عبدالله الأول ملكا على الأردن، وتأسست الدولة وصار لها دستور”القانون الأساسي” سنة 1928 والذي تطور لاحقا لدستور عصري وحديث، يستلهم أفضل قيم الملكيات في العالم.
منذ ذلك التاريخ تشكلت رابطة دستورية بين الشعب والهاشميين، تلخصها المادة الأولى من الدستور: “المملكة الأردنية الهاشمية دولة عربية مستقلة ذات سيادة ملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شيء منه، والشعب الأردني جزء من الأمة العربية ونظام الحكم فيها نيابي ملكي وراثي”. والعرش في الأردن وراثي في أسرة الملك عبدالله الثاني. وولاية الملك تنتقل من صاحب الملك إلى أكبر أبنائه سنا ثم إلى أكبر أبناء ذلك الابن الأكبر وهكذا طبقات، كما يقول الدستور.
معنى ذلك أن الملك في الأردن يخضع لأحكام الدستور، ولا يستطيع أن يتولى سلطاته الدستورية قبل أن يؤدي القسم أمام مجلس الأمة الذي يستمد منه الشرعية بوصفه الركن الأول في النظام السياسي الأردني. ويمارس سلطاته عبر حكومته، وباستثناء بعض البنود التي حددها الدستور، فكل إرادة ملكية تصدر تكون بتنسيب من رئيس الوزراء والوزراء المختصين.
كل الملوك الهاشميين أقسموا اليمين أمام مجلس الأمة قبل تولي سلطاتهم الدستورية على خلاف دول أخرى لا توجد لديها دساتير، وتعتمد البيعات القبلية للحاكم عندما يتولى سلطاته.
هذا الوضع الدستوري الذي ينظم ممارسة السلطة في الأردن وتنصيب الملوك مستقر وثابت منذ عبدالله الأول وحتى يومنا هذا. وشكل هذا الاستقرار عنوانا فريدا في عالمنا العربي لعلاقة العرش بالشعب.
البيعة قيمة تاريخية راسخة في الوجدان الأردني نستذكرها كحدث تأسيسي، ووثيقة هي بمثابة أيقونة وطنية أردنية، تم تأطيرها لاحقا بدستور ينظم شؤون الحكم وانتقال السلطة في المملكة.
والمجتمع الأردني لم يعد ذلك المجتمع الذي كان عليه قبل مائة عام، فهو اليوم كيان معاصر أصبح له عصبة وطنية واحدة ومؤسسات مدنية حديثة، وقيم مواطنة محكومة بتشريعات حديثة يقرها البرلمان، وتتولى سلطة مركزية تنفيذها وتطبيقها بقوة القانون الذي لا ينازعها عليه أحد.
بعد قرن من الزمان وما حققناه من مكتسبات على طريق بناء الدولة الدستورية الحديثة، لن يقبل أردني واحد أن نعود إلى الوراء، إلى زمن البيعات.