ساقتني العزلة الإجبارية في عطلة نهاية الأسبوع للتفرغ لمشاهدة الفيلم الوثائقي «الوضع تحت السيطرة» أو «Totally under control»، الذي أخرجه كل من «أليكس جيبني وأوفيليا هاروتيونيان» في 2020، وكنت أجلت مشاهدته مرات عدة لانشغالي. وسيناريو الفيلم يبين تتبع استجابة إدارة ترامب لجائحة كورونا، وصُور الفيلم بسرية تامة، وفي ظل ظروف صعبة فرضتها إجراءات السلامة المرتبطة بجائحة كورونا. ويروي لنا الفيلم طريقة إدارة الرئيس الأميركي السابق ترامب وفريقه لملف كورونا، ويبين عدم كفاءة هذه الإدارة في التعامل مع هذا الملف الخطير.
وقد تعرضت إدارته لانتقادات كبيرة وقتها حول طريقة تعاملها مع هذه الأزمة منذ البداية، ومحاولاتها البائسة في التهوين من خطر هذه الجائحة. ونقرأ من عنوان الفيلم بأن هذه الإدارة لعبت دوراً مضللاً في إيهام المواطن الأميركي بأن كورونا تحت السيطرة، ومن هُنا جاء عنوان الفيلم، وحاولت تصوير الجائحة كما لو كانت شأناً صينيا بحتاً.
ونستنتج بأن الإدارة الأميركية السابقة تعاملت مع الجائحة بهذه اللامبالة وقللت من شأنها عن قصد: فترامب كان متيقناً بأن لورقة الاقتصاد دوراً حاسماً في تجيير نتائج الانتخابات الرئاسية لمصلحته، وفعلاً كانت هذه الورقة حتى بداية العام الماضي في صالحه، بل إنه حاول استغلال الجائحة وتوظيفها لزيادة حجم الصادرات الأميركية الى الصين، وشجع الشركات الأميركية على بيع وسائل الحماية الشخصية، وخاصة كمامات N95 الى الصين، لتعود الولايات المتحدة وتشتريها بعد أشهر قليلة بأضعاف سعرها.
ونحن نعلم جيداً، ولا يختلف اثنان على ذلك، بأن نقص معدات الحماية الشخصية وشرائح تشخيص المرض هو أحد أهم أسباب التفشي المُجتمعي للمرض بسرعة كبيرة. فرغم صدور التقارير السابقة المتخصصة والتي حاولت محاكاة تطورات وتداعيات جائحة مُشابهة قبل ذلك بسنوات، فإنّ جميعها أشارت الى وجود مشكلة حقيقية في نقص وسائل الحماية وأدوية مُعالجة الفيروس، وغياب رؤية موحدة لدى الهيئات الفيدرالية حول كيفية إدارة جائحة محتملة. إلا أن إدارة ترامب ضربت بهذه المُخرجات عرض الحائط، بل وأظهرت تهاوناً كبيراً في تعاملها مع الجائحة عندما قام نائب الرئيس بحل اللجنة المعنية بإدارة الأزمة.
لقد كان لغياب التنسيق، بل والتصادم بين الجهات الفيدرالية المختلفة، دور مهم في فشل الجهود الرامية إلى السيطرة على انتشار الفيروس، وتُركت الولايات المُختلفة وحيدة في مواجهة جائحة كورونا، وفي تدبّر كل ولاية لأمرها، بعد فشل الإدارة الفيدرالية في تأمينها بالمعدات اللازمة. لذلك عمدت الولايات المختلفة الى التنافس فيما بينها للحصول على المُستلزمات الطبية، ما رفع أسعار هذه المواد الى أرقام خيالية غير مسبوقة.
لقد كان جليّاً منذ البداية أن الرئيس الأميركي الأسبق دونالد ترامب يضع الانتخابات والاقتصاد كأولوية على أجندته قبل الصحّة، ولا أدلّ على ذلك من تشكيلة اللجنة المعنية بمكافحة الجائحة والتي غلب عليها السياسيون ورجال الأعمال واللوبيات التابعة للصناعة وكان ينقصها أهل الاختصاص والمعرفة والخبراء في مجال الصحة العامة والتصدي للوباء.
كما عمدت الإدارة إلى إسكات أي صوت يغرد خارج الإطار العام، وقامت بإقصاء أصحاب الرؤى التي تختلف معها حتى لو كانت لخبراء يعتد بهم، وأحاطت الإدارة نفسها بمجموعة انحازت بأنانية للمصالح المادية، وغلب الولاء فيها على قيمة العلم والمنطق وصحة المواطن.
وخير برهان على ذلك: تبني الرئيس علناً لعلاج الهيدروكسي كلوركوين بناء على نصيحة طبيب غير متخصص، قام ببث فيديو عن مشاهداته، وهذه بحد ذاتها تعد سابقة بالتاريخ.
لقد طبع رد فعل الإدارة الأميركية على هذه الجائحة الارتجال، وسوء التنسيق وغياب الشفافية وإسكات كل الأصوات المُعارضة، بغية كسب الوقت لدخول الانتخابات بأقل الخسائر.
إذا كان هذا حال الدولة العظمى والتي تفوق مساهمتها في العلم وفي الابتكارات العلمية مساهمة دول العالم الأخرى مجتمعة، فلنا أن نتخيل حال الدول الأخرى التي أستبعد أن يجرؤ أحد مواطنيها على تصوير فيلم وثائقي يحكي لنا عن إدارتها الأزمة ولا حتى بصورة سرية!
نعم، يحزنني أن أقول إن هذه هي الثمار التي سنحصدها عندما يتصدّر السياسيون المشهد، ويتم إقصاء أصحاب الخبرة والرأي عن الإدلاء بدلوهم، وعندما يصبح الفوز بالانتخابات أو حتى الحصول على موطئ قدم سياسي أهم من أرواح البشر!!