المهمة ليست بالسهولة التي نتوقعها، لكن البداية القوية لا بد منها لمنح الزخم المطلوب لعملية الاصلاح. جلالة الملك في حديثه بمجلس السياسات أول من أمس وفر لمؤسسات الدولة الغطاء الكامل والدعم اللازمين، وأطلق شارة البداية لماراثون إصلاحي شامل لإدارة الدولة ومؤسساتها وجهازها المدني، وكان قبل ذلك قد وجه الحكومة لمراجعة التشريعات الناظمة للحياة السياسية والبرلمانية.
الإصلاح لايتطلب معجزات، بل إرادة قوية، وفريقا قياديا مؤمنا بالدولة ويملك تصورا لما ينبغي فعله خلال المرحلة المقبلة.
بصراحة شديدة مؤسسات صناعة القرار والمؤثرون فيه لا تتوافر فيهم جميعا تلك الصفات، ثمة مجموعات مكبلة بالمصالح الضيقة وأسيرة لثقافة المحسوبية والواسطة، وفريق آخر أضعف من أن يواجه ضغوط المجتمع.
جلالة الملك كان دقيقا وصادقا عندما أكد أن الإهمال والفساد ليسا من ثقافة الأردنيين، إنما ثقافتهم هي الشرف والرجولة والكرامة، لكن في أوساط طبقة النخبة السياسية والبيروقراطية فإن الواسطة والمحسوبية”ودناوة النفس” ثقافة منتشرة بكل أسف.
رئيس الوزراء وفي اليوم التالي لحادثة السلط، قال في البرلمان، إننا بحاجة لثورة إدارية، وهو محق في قوله. متطلبات النجاح للثورة ليست متوفرة حاليا، وأمام الحكومة مشوار ليس قليلا لبناء برنامج بديل ينسف الأسس القائمة ويعيد تشكيلها وفق مصالح الدولة والمجتمع، ويؤسس لمرحلة جديدة في الإدارة الأردنية.
والمسألة مترابطة ومتشابكة، حيث تتداخل قطاعات التربية والتعليم وسياسات سوق العمل والتشغيل وتشريعات الإدارة المحلية، ونظام الخدمة المدنية مع بعضها البعض، بحيث يغدو صعبا تحقيق تقدم في مسار دون المسارات الأخرى.
لقد ارتبط مفهوم البيروقراط الأردني تاريخيا بالشرعية السياسية للدولة، وقد حان الوقت لتطوير هذا المفهوم، حتى لا تبقى الشرعية أسيرة لقوى بعينها.
ولم يكن مخطئا من قال إن هناك ارتباطا واضحا بين تردي كفاءة الجهاز المدني للدولة، وعودة الحياة النيابية قبل ثلاثين عاما. ليس البرلمان من حيث المبدأ مسؤولا عن الفشل الإداري، لكن طبيعة العلاقة التي تشكلت بين السلطتين التنفيذية والتشريعية والقائمة على الصفقات والمصالح المتبادلة، كانت دوما على حساب الجهاز المدني.
هذا النهج لم يتغير وأشك أنه سيتغير في وقت قريب، ما دامت الحياة البرلمانية قائمة على الأفراد لا الأحزاب والتيارات والبرامج، وما دامت الحكومات، تتشكل على النحو الذي نشهده منذ عقود طويلة.
كل النخب السياسية على اختلاف طبقاتها ومواقعها في العقود الثلاثة الماضية متورطة ومسؤولة عن أزمة القطاع العام.
لكن إلى ذلك الحين الذي نتمكن فيه من إنجاز عملية إصلاح إداري شاملة، يمكن فعل الكثير لتجويد أداء الجهاز المدني، وكسر الحلقات الضعيفة، وفرض معايير صارمة لمراقبة وتقييم الأداء، وتنقية القطاع من الكسولين وعديمي الخبرة وقليلي الحيلة.
والبداية تكون بالحرص على تصعيد قيادات إدارية قوية وجسورة واثقة من نفسها، ونزيهة ولا تخشى الحسابات الضيقة والمصالح الذاتية. قيادات، المسؤولية عندها أهم من المنصب. هذا الصف من القياديين سيكون مستعدا لحمل مشروع الاصلاح في الميدان وتنفيذ الأجندة الاصلاحية التي تتبناها الحكومة.