تعرف منطقتنا أنها مصدر لغالبية التهديدات للأمن والسلم الدوليين: انتشار أسلحة الدمار الشامل أو السعي للحصول عليها، الإرهاب والتطرف الإيديولوجي والمسلح، الدول المنهارة، الجريمة المنظمة العابرة للحدود مثل الاتجار بالبشر، وانتشار الدول الفاشلة المنهارة. هذه هي تهديدات العصر الحديث للأمن والسلم الدوليين، وهي موجودة في كل العالم، لكن الشرق الأوسط مصدر أساسي لها. الصين منافس استراتيجي حقيقي ومحور التجاذب بين الشرق والغرب يسير بقوة للتفوق والغلبة، قادر على إحداث تحد استراتيجي، لكن ذلك البلد يتبع سياسة النمو والتفوق السلمي، ويلعب الى حد بعيد ضمن قواعد العمل الدولي، ويتحدى هيمنة الغرب من خلالها، وليس بالرغم عنها.
مناسبة الحديث استمرار الولايات المتحدة بالانسحاب الاستراتيجي من الشرق الأوسط، رغم هيمنتها الكبيرة فيه، تاركة فراغا ستقوم دول مثل إيران، أو ميليشيات فوضوية، بملئه. بدأ انسحاب الولايات المتحدة من الشرق الأوسط المضطرب منذ عهد بوش الابن على عكس الأب، ضمن سياسة رفع اليد التي تبنتها عقيدة بوش الابن الأمنية، ثم جاء أوباما والتزم رسميا بوثيقة الأمن القومي التي أعلنها بأن أميركا ستقود من الخلف، وتركز جهدها وعقلها وتعيد تموضعها لمنطقة جنوب شرق آسيا وليس الشرق الأوسط، نظرا لتباين الأهمية بين المنطقتين، ثم أتى ترامب وعزز من التراجع والانسحاب وإن بأسلوب فوضوي. بايدن الآن يسير بالخطى نفسها من تقليص حجم التفاعل والاشتباك الأميركي مع التوازن الإقليمي في الشرق الأوسط. هذه السياسة عابرة للرؤساء والأحزاب، تأتي بوضوح لأسباب داخلية واستراتيجية أميركية، مشكلتها الأساسية أنها؛ أولا، تغفل حجم الدور الكبير الذي تلعبه أميركا ميدانيا في الإقليم الشرق أوسطي وغيابها سيترك فراغا هائلا، وثانيا، أنها لا تخلق بديلا للدور الأميركي بالمنطقة، بل تترك ذلك للدول القادرة والراغبة في ملئه، وثالثا، أنها تتجاهل حقيقة أن منطقة الشرق الأوسط إقليم منهار لا يقوى على حل مشاكله ذاتيا، وإنما يحتاج للدور الأميركي في الإقليم للحفاظ على توازن القوى الموجود.
أميركا، وضمن هذا النهج، لا تريد أو تتقبل دورا شرق أوسطيا يتماهى مع إملاءات التاريخ وحقائق الميدان الأمني والجيوسياسي، ولا هي تريد تقوية الحلفاء والأصدقاء لدرجة تجعلهم قادرين على ملء الفراغ وحل مشاكل الإقليم ومواجهة تحدياته، وتكتفي بالتزامها بأمن الدول المفتاحية بالإقليم وإن تباينت درجات التزاماتها تلك وتضاءلت أحيانا. مناسبة الحديث أمران؛ الأول، ما نراه يوميا من اختبار لقواعد الاشتباك بين أميركا وإيران، كان آخرها الهجوم على قاعدة عين الأسد العراقية بعشرة صواريخ، ما تزال أميركا تحاول تحديد مصدرها، والثاني، اللغة الدبلوماسية والاستراتيجية التي يستخدمها المسؤولون الأميركيون التي تتشابه حد التطابق مع لغة إدارة ترامب التي ما نفكت تلوم من قبلها على أي إخفاقات أو اشتباكات إقليمية مع إيران وميليشياتها. الأمور غير واضحة ولا مبشرة، تشير على الأرجح إلى تراجع كبير لدور أميركا في المنطقة، وتمدد للنفوذ الإيراني وميليشياته في الإقليم.