كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن ضرورة قيام الحكومة بإطلاق خطة للتعافي الاقتصاديّ خاصةً من تداعيات كورونا التي قلبت مؤشرات وفرضيات موازنة العام الماضي رأساً على عقب، والمرجح أن تستمر آثارها بشكل عميق على خطة الدولة الماليّة للعام الحالي، إلى حين تراجع وطأة الوباء.
كاتب المقال شارك العديد من المختصين والمتابعين للشأن الاقتصادي بفكرة ضرورة وجود خطة للتعافي الاقتصادي للمرحلة المقبلة، لكن في الحقيقة بمجرد التفكير العميق في هذه الخطة قد تجد أن هناك صعوبة كبيرة في إطلاقها لفترات زمنية متوسطة أو طويلة، وبميزانية ماليّة محددة.
هذا الاعتقاد جاء بعد التمعن في أولويات الموازنة الحالية أو أي ميزانية سابقة، فالأمر سيان، فالحكومة ملزمة بأدوار وقضايا تجعلها على الدوام تحت ضغط شديد لا يمكنها من التفكير أبعد من توفير تلك الأولويات.
الحكومة ومن خلال الموازنة ملتزمة بأولويات أساسية لا يمكن التهاون أو التروي فيها، فالأولوية الرئيسة اليوم هي توفير كامل مخصصات الرواتب الشهرية للجهاز المدني بالقطاع العام بقيمة 148.5 مليون دينار شهريا، أي بواقع 1.779 مليار دينار، مضافا إليها 134.4 مليون دينار أقساط شهريّة للتقاعد المدني والعسكري معاً، أي بواقع 1.612 مليار دينار في العام، وإذا ما أضفنا التزامات شهرية لخدمة الدين بقيمة 118.8 مليون دينار، أي بواقع 1.452 مليار دينار في العام.
ناهيك عن تخصيص الموازنة لأكثر من 200 مليون دينار كدعم نقدي مباشر لصندوق المعونة الوطنيّة، ومبلغ يناهز الـ70 مليون دينار كسداد لالتزامات متأخرة سابقة.
من الأرقام السابقة يتضح أن رواتب العاملين في الجهازين المدني والعسكري والأمن العام والسلامة العامة، والتقاعد المدني والعسكري، ما نسبته 65 بالمائة من النفقات الجارية للدولة، وإذا ما أضفنا النفقات التشغيليّة التي تشكّل 10 بالمائة منها، وفوائد الدين 17 بالمائة، يكون بذلك قد استحوذت البنود السابقة على ما يقارب الـ92 بالمائة من النفقات الجارية، وهذه تعطي بوضوح مدى الضغوطات الكبيرة التي تعترض طريق الحكومة عامة، ووزير الماليّة خاصة في إطلاق خطة وطنية للتعافي الاقتصادي، لا بل أي خطة متوسطة أو بعيدة المدى، وحتى القصيرة منها قد يكون صعبا بسبب استحالة وصعوبة توفير المخصصات الماليّة لأي إجراءات تحتاجها أي خطة، فالأولوية هي التفكير المستمر في تأمين مخصصات الإلتزامات الماليّة للبنود السابقة.
هذا لا يعني أن تقف الحكومة مستسلمة لواقعها المالي المرير، فهو واقع مؤلم ومزمن في آن واحد، ولم يكن في سنوات سابقة بأفضل مما نحن عليه، فالتحديات دائما تعصف بالاقتصاد الوطنيّ ومؤشراته الماليّة في الموازنة، ولولا لطف الله ورعايته أولا، والمساعدات الخارجية من المانحين لبقي الاقتصاد الوطنيّ في نفقٍ مظلم.
مطلوب من الحكومة وبمساعدة مختلف الجهات ذات العلاقة وتحديدا مجلس النوّاب أن يعدوا خطة أو حزمة إجراءات للصمود، أي لصمود القطاعات الاقتصاديّة المختلفة، وهذا لا يكون بمخصصات ماليّة، وإنما يكون من خلال إعداد مصفوفة الإجراءات التي تعوق نموّ القطاع الخاص وتشكّل عائقا أمام توسع أنشطته.
غالبية مشاكل القطاع الخاص مع الحكومة ليست بالدعم النقديّ كما يتصوره البعض، وإنما بمنظومة التعاملات الإدارية اليوميّة التي يعانيها مع مؤسسات القطاع العام والعاملين فيه، هناك مشاكل لا تنتهي، منها بيروقراطية المعاملات السلبية، والتفكير غير الرشيد للكثير من الطبقة الإدارية في المؤسسات الرسميّة، وعدم فهم القوانين والأنظمة، والتفسيرات العشوائية لهما، غير التعقيدات التي تظهر فجأة هنا وهناك، وغياب التشاركية الحقيقية في الرؤية والحلول والتشريعات، كُلّها عقبات حلها أفضل وأنجع بكثير من أي دعم نقدي قد تقدمه الحكومة لأي قطاع.
القطاع الخاص بأمسّ الحاجة اليوم لحزمة إجراءات تساعده على الاستمرا والصمود في وجه التحديات والتقلبات الحادة التي لا يمكن تحديد مساراتها واتجاهاتها، هو بحاجة لشراكة حكوميّة تبدأ أولا بتفهم دور القطاع الخاص التنمويّ، وكيفية مساعدته على تجاوز أي عقبات تقف أمامه، وتبسيطها قد يكون له مفعول عشرات الأضعاف من مفعول أي خطط ماليّة للمرحلة المقبلة.