منذ أيام اتصل أحد المتقاعدين العسكريين ببرنامج إذاعي صباحي يشكو فيه همه وضيق ذات اليد في محاولة للبحث عن عمل أو وسيلة مساعدة أو ربما لمجرد بث شكواه وإيصالها الى صناع القرار.
في تلك الواقعة حاول المذيع الاستفسار من المتصل عن هويته وأوضاعه وحالته الصحية والعمرية والعائلية ليعبر بعدها مقدم البرنامج عن استغرابه من اجابة المتصل بأنه لا يستطيع العمل بالرغم من أنه ما يزال شابا ومستطردا في القول “ما حبيتها منك” بعدما ساق له بعض الامثلة لأشخاص يعملون في مهن صعبة بالرغم من تردي أوضاعهم الصحية ونقص قدراتهم البدنية.
من الناحية المنطقية لا خطأ يذكر فيما قاله المذيع فقد أثار اسئلة تتولد في ذهن كل من يستمع ولا أظن ان مثل هذا السؤال يغيب عن بال أي شخص استمع الى الاتصال فالمتوقع من كل من هو رب لأسرة كبيرة وعمره في الأربعينيات ان يكون لديه عمل أو يقوم بنشاط أو حرفة ما ليلبي احتياجاتهم ويشغل وقته.
ما أن انتهت المقابلة حتى توالت الردود والتعليقات التي استنكر غالبيتها موقف المذيع وعبروا عن تعاطفهم مع المتقاعد وانبروا للدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة. البعض ركب موجة الدفاع وحاك الكثير من التفاصيل التي أخرجت الواقعة عن سياقها لأسباب قد ترتبط بمناكفات شخصية لا مكان لها في السياق.
الحقيقة التي أوحت بها الحادثة ان هناك جدلا على مساحة الفضاء السيبراني حول ما ينبغي على الدولة عمله لرفاه وخلاص المواطن وفيما اذا كانت مسؤولة عن اوضاع مستخدميها خلال الاستخدام أم إلى يوم الدين وما حجم ومدى وشكل المسؤولية المترتبة عليها؟
في الأردن اليوم ما يزال غالبية الناس يؤمنون بأبوية الدولة ويعتقدون أنها مسؤولة وبصورة كاملة عن تلبية حاجات الافراد ورعايتهم. بالمقابل هناك من يرون أن لا مسؤولية للدولة خارج أطر الحفاظ على الأمن وتنظيم الشؤون العامة وحماية الحدود.
ما بين الوجهتين بقي الخطاب الإعلامي حائرا فتارة يتحدث عن الدولة كراعية والمواطنين كرعايا تطعمهم وتسقيهم وتحميهم الدولة، وأخرى يتحدث عن ان الدولة فضاء محمي ومنظم ينشط فيه الافراد لتحقيق اهدافهم وتعظيم العوائد والمصالح ويدفعون للدولة ضرائب ورسوما مقابل الحماية والتنظيم والخدمات العامة.
حتى اليوم يلاحظ المتتبع لسلوك الدولة وخطابها ونظرة المواطن وتوقعاته وجود التباس كبير في تحديد مهام وواجبات وطبيعة العلاقة بينهما فهي تتأرجح بين الأبوية والمدنية ولا يوجد ما يشير الى احتمالية توضيحها أو تحديدها في المستقبل المنظور.
الجديد فيما يحدث ان هذه التدخلات لم تعد كافية والحاجات التي يسعي الافراد لتحقيقها لا تتوقف عند ما يمكن ان يأتي من اعانات أو راتب تقاعدي متواضع.. فالمتقاعد يري الدنيا تتغير حوله وليس بوسعه التكيف ولا التأقلم ليحسن دخله ويؤمن بطاقاته وقدراته فلم يخضع الى أي تأهيل قبل التقاعد ولا توجد فرص لاستخدام خبراته السابقة، الامر الذي يولد لديه العتب والمرارة التي تدفعه للشكوى والاستغاثة.
في هذا العام الذي تدخل فيه الدولة المئوية الثانية وينطلق شعار الوفاء للمتقاعدين تتبدي مثل هذه الحالات التي تعبر عما آلت إليه الاوضاع وتشي بأن من المهم الانتقال في هذا الملف من مرحلة الحديث والثناء والتقدير الى خطاب جديد موضوعي وواضح يحدد نوعية العلاقة بين الفرد والدولة ويبين تفصيلات الحقوق التي يمكن ان يحصل عليها الفرد والواجبات التي يقوم بها وان يجري التخطيط والتدريب والإعداد والتأهيل والتهيئة للتقاعد لكي لا يجد الفرد نفسه فجأة في مواجهة ظروف واوضاع غير قادر على مواجهتها والتصدي لها.
موجة الجدل والحوار التي عمت وسائل التواصل الاجتماعي وأودت بمضيف البرنامج الاذاعي تذكرنا مرة اخرى بحجم الفجوة بين ما نقول وما هو موجود على الارض، فالخطابة شيء والواقع المعاش شيء آخر… ومن وقت لآخر تتكشف لنا حقيقة المشاعر والأوهام التي نداريها فيتفجر صمتنا بصورة جارفة كما رأيناه في العديد من الفيديوهات التي نشرها بعض المتقاعدين.
الحقيقة الموجعة ان البرامج الصباحية التي يقوم عليها عدد من نجوم الأثير ولدت على هدي برنامج البث المباشر الذي تناوب على تقديمه العشرات من اوائل نجوم الصحافة الذين لم يروا فيه منصة لجلب الاعلانات أو الترويج لبعض المسؤولين أو مساحة ومنبرا ليقولوا من خلاله ما يحلو لهم فيصبحوا ملجأ لمن نالت منه الظروف أو يحتاج لمنبر لبث شكواه.
في الزمن الجميل كان سلامة محاسنة وجبر حجات وضياء سالم وشاكر حداد وسحوم المومني وليلى القطب ورفاقهم يسعفون الحكومات والمؤسسات ويرشدون الناس الى منافذ الخدمة بلا مناكفة أو تنظير واستعلاء فقد كانوا جميعا ينادون بأسمائهم لا بألقابهم واسماء ابنائهم.