فلسطين التي رأيتها لأول مرة

كانت الساعة تقترب من موعد صلاة الظهر، في مدينة الخليل الفلسطينية، ونحن على مشارف الحرم الابراهيمي في الخليل، واليوم، يوم سبت، والثلة القادمة من الأردن تريد الدخول الى المسجد، للصلاة، وزيارة نبي الله إبراهيم، وقراءة الفاتحة.
توقف الموكب، وعبر زقاق ضيق ذهبنا الى بوابة الحرم الابراهيمي، وجيش الاحتلال منعنا بصلافة من الدخول، فهذا يوم سبت، يسيطر فيه المحتلون على المسجد، ولا يسمح للمسلمين بالدخول، وما بين جدل وجدال، تجمع فجأة مئات المستوطنين، حاملين الرشاشات، وبدأ الرصاص ينهمر لتخويف الموجودين، وضربوا سيارات الموكب بالحجارة، حتى احيط بكل الوفد، وسياراته، وكانت لحظات مرعبة، لا تعرف اذا كنت ستخرج حياً منها ام لا.
كنت يومها حاضرا، وثلة من أعضاء مجلس النواب، في شهر تشرين الاول (اكتوبر)، من العام 1999، ورئيس الوفد عبد الهادي المجالي، الذي كان رئيسا لمجلس النواب، حيث الزيارة بدعوة من الفلسطينيين، لعدة أيام، زرنا فيها غزة والقدس، وبيت لحم ، ونابلس، وقلقيلية، والاغوار، وقرأنا الفاتحة على أضرحة شهداء الجيش الأردني في فلسطين.
يومها اخلي المجالي بطريقة امنية محترفة، حفاظا على حياته، والفلسطينيون قاموا بإخراجه من الزقاق الضيق، الذي على ميمنته وميسرته بيوت اثرية عمرها مئات السنين.
غادرنا الموقع، بسرعة، ومساء ذلك اليوم عقد المجالي مؤتمرا صحفيا، في الخليل، قال فيه كلاما كثيرا، لكن التجربة بقيت شاهدة على ما يعيشه اهل الخليل، وأبناء فلسطين، من تجارب شبه يومية، في هذا الموقع، وكل شبر في فلسطين، ردها الله من غربتها.
رحل عبد الهادي المجالي، وقد عرفته عن قرب، ولم يكن رجلا عادياً ولا عابراً، اتفقت معه، او اختلفت، توافقت معه سياسياً او تعارضت، كان زعيماً بحق، وربما نشأته العسكرية، حين وصل الى رئاسة اركان الجيش، وموقع مدير الامن العام، صبغت شخصيته السياسية والدبلوماسية، فقد كان رجلا له كاريزما حاضرة، وله مشروعه، الذي عانده فيه كثيرون، وكان له عدد كبير من الأصدقاء، مثلما كان له خصومه العلنيون والسريون، وهو أيضا كان رئيسا مكتملا للبرلمان، ولم يكن سهلا مس مكانته، او السيطرة عليه، او التحكم به.
في تلك الزيارة، جالسنا الراحل فيصل الحسيني، وحنان عشراوي في بيت الشرق في القدس، وكان هناك شرح عما يفعله بيت الشرق للمقدسيين، جلسة لا تنسى، فتفهم لاحقا، لماذا حارب الإسرائيليون فيصل الحسيني، واغلقوا بيت الشرق، وبعد لقاء لساعتين، سرنا مشيا على الاقدام من بيت الشرق، الى المسجد الأقصى، للصلاة.
لا انسى ابدا، انه خلال دخولنا أحد الأزقة في البلدة القديمة، خرجت علينا عجوز مقدسية، لتسأل عمن نكون، وحين عرفت ان الوفد اردني، أصرت على ان نشرب القهوة ؟
دخلنا بيتها وكان المجالي والنواب، يستمعون الى السيدة التي تعيش في غرفتين، وابنها في الولايات المتحدة، وهو ممنوع من دخول فلسطين، وفي احدى الغرفتين ضريح لولي صالح من المغرب، أصلا، هو جد أصحاب المنزل، فتروي لنا السيدة، كيف دفع الإسرائيليون لها خمسة عشر مليون دولار، من اجل بيع الغرفتين، وكيف يتم الاعتداء عليها، وضربها، وهي تأبى ان تبيع الغرفتين، حتى لو كانت احدى الغرفتين ضريحا، وتقول انها لن تموت وقد باعت بيتها في القدس، وقد يسرق الاحتلال الغرفتين بعد رحيلها، لكنها لن تكون البائعة ابداً.
يومها صلينا في الأقصى، ومسجد قبة الصخرة، وكنا على موعد مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، في رام الله، الذي استقبل المجالي بتقدير، وكان يتحدث عن التاريخ الفلسطيني الأردني الواحد، عبر مئات السنين، واستذكار لكثير من الذكريات على مدى عقود.
ذهبنا الى غزة، ونابلس، وكنت استكشف فلسطين، لأول مرة، بعيون كركية، فقد اصر المجالي على ان اسافر معه، في تلك الزيارة، التي لا تنسى تفاصيلها الكثيرة ابدا.
رحل المجالي، وملف الذكريات كبير، فقد غطيت البرلمان حين كنت صحفيا، لمدة احد عشر عاما، وعرفت الراحل عن قرب، كان مشروعا لرئيس وزراء، وكان لديه تصوره، وهو بلا شك من جيل فريد، لا يتكرر، سياسياً، حتى وان اختلفت معه، وكان على المستوى الاجتماعي، نقي الصدر، لا يحقد، طيب الملقى، يسامح خصومه، فقد ولد الرجل كبيرا، وغادر كبيرا، وهذه شهادة لا تجرحها الاختلافات، ولا تباين وجهات النظر.

أخبار أخرى