أكبر تحد أمام عملية الإصلاح في الدولة هو الجهاز الإداري، وهذا ما أكد عليه الملك في حديثه الأخير مع وكالة الأنباء الأردنية، وهي باتت حقيقة مؤلمة بعد ان كان القطاع العام عنواناً للتميز والعطاء في العقود الماضية.
ما حدث في القطاع العام من ترهل وتشوه في الأداء سببه السلطتان التشريعية والتنفيذية معاً، فالأولى وممثلة بالنواب مارست ابشع أنواع الضغوطات على الحكومات لتعيين أقاربهم ومعارفهم في مؤسسات الدولة ووزاراتها، متجاوزين بذلك كُل الأسس والأنظمة الخاصة بالتعيينات، مما زاد من عمليات المحسوبية والواسطة، وللأسف قبلت الحكومات تلك الضغوطات بصدر رحب، كنوع من أنواع التفاهمات والصفقات السياسية لتمرير أعمالها وثقتها تحت القبة، والنتيجة هي جهاز عام مترد في الأداء والإنتاج، وأعداده تتجاوز المطلوب فعلياً بأكثر من 50 بالمائة.
أما الحكومات فقد كانت بعض قراراتها كارثية على القطاع العام عامة، والاقتصاد الوطني خاصة، فهي إلى جانب تواطئها مع النواب في التعيينات غير الشرعية، كانت لبعض قراراتها ضربة موجعة في تهجير الكفاءات وخروجها من القطاع العام، وهذا ما حدث فعلياً جراء تنفيذ خطة إعادة هيكلة القطاع العام في عام 2011، والتي تعتبر من وجهة نظري الشخصية شكلا من أشكال الفساد الإداري الذي يستوجب على المعنيين بعمليات الإصلاح محاسبة من قام بمثل هذا العمل الخطير على الدولة والذي كلف الخزينة لغاية يومنا هذا اكثر من نصف مليار دينار، بعد ان كانت كُلفتها في الميزانية بحدود الـ82 مليون دينار.
الأمر لم يقتصر على الخسائر المالية التي تعادل نصف عجز الموازنة بعد المساعدات من تداعيات تلك الخطة، وإنما انتقل إلى هروب أصحاب الخبرات والكفاءات بعد ان قررت الحكومة في ذلك الوقت تحت حجة الإصلاح مساواة جميع العاملين في القطاع العام بمظلة واحدة للرواتب دون وجود ما يسمى بالعقود، وهنا كانت الكارثة المالية، انه تم رفع رواتب غالبية الموظفين، وتخفيض رواتب أصحاب العقود والذين كانت غالبيتهم من أصحاب الخبرات، مما دفعهم للخروج إما بالتقاعد المبكر، أو السفر للخارج.
أمر محزن ما أصاب القطاع العام، وأي عملية إصلاح له تقاوم بقوة من لوبيات متعددة وأصحاب النفوذ على الدولة تحت حجة الأمن الاجتماعي.
حالة المقاومة هذه والتي تشكل تحديا كبيرا أمام الحكومة في إنجاز عملية الإصلاح المطلوب في القطاع العام تلقي بظلال قاتمة على أي جهد إصلاحي، بحيث ان أثره لا يظهر، لأن عملية الإصلاح هي إصلاح مجزأ.
فالإصلاح الضريبي النوعي الذي حدث في دائرة ضريبة الدخل والمبيعات خلال العام الماضي والذي ظهر من خلال توسعة قاعدة المكلفين ومكافحة التهرب الضريبي والتسويات القانونية التي تتم، لم تعط المؤشرات الإيجابية المطلوبة لتحسين بيئة الأعمال، لأن الإصلاح الضريبي لم يرافقه بشكل متوازن إصلاح في باقي المؤسسات الرديفة التي بقيت على حالتها الصدامية مع القطاع الخاص والمواطنين.
المطلوب هو إصلاح شامل لمؤسسات الدولة وعدم التراجع عنه، وقد تكون القرارات في البدايات مؤلمة، لكن من المؤكد ان النتائج ستكون إيجابية بشكل كبير على المصلحة العامة، وهذا لا يكون إلا من خلال العمل المؤسسي وتفعيل دولة القانون والثبات على هذا المفهوم قولاً وفعلاً، فالعدالة كفيلة بتصويب السلوكيات مهما كانت.