مشهد اقتحام مئات المناصرين للرئيس الأميركي مبنى الكونغرس أذهل العالم والشعب الأميركي. ما رأيناه نتوقع حدوثه في دول العالم المارقة التي لا ديمقراطية فيها، ولا قيم سياسية مدنية، ولا احترام لسيادة القانون.
مبدأ الانتقال السلمي للسلطة، الذي يعد من أهم وظائف وسمات الديمقراطيات، لم يتحقق في جلسة الكونغرس المخصصة للمصادقة على قرارات الولايات والمجمع الانتخابي حول نتائج الانتخابات. هذا خدش واضح للديمقراطية الأميركية، التي قرر أنصار ترامب تحديها باستخدام العنف واقتحام مقر الكونغرس الذي يمثل الشعب الأميركي.
المؤسسة الديمقراطية الأميركية ستنتصر لا جدال حول ذلك، لكن مهم جدا الوقوف على أسباب ما حدث ومواجهته بالطرق السياسية الضرورية، وإلا فالشعبوية الترامبية المؤذية للداخل والخارج ستتجذر وتكبر وتصبح نهجا سياسيا متبعا يهدد الديمقراطية وينال منها.
في معرض تنسيب ما حدث، تبرز سلوكيات الرئيس الأميركي التقسيمية والتحريضية كأساس لفهم العنف الذي قرر مواجهة الديمقراطية. الرئيس الأميركي النرجسي يؤجج مناصريه، يرى نفسه فوق الدستور والديمقراطية والقيم السياسية التي تدعم الانتقال السلمي للسلطة، وقد مارس على مدى أربع سنوات دورا أحدث شرخا في المجتمع الأميركي وقفز على قيم الديمقراطية، استثمر بالشعبوية لكي يطيح بخصومه ويواجه خساراته السياسية.
ترامب سياسي نزق لا يقبل الخسارة، وانتهازي يستخدم كل الأدوات لنيل الانتصار السياسي حتى لو كان على مصلحة بلاده. بقي يتحدى نتائج الانتخابات حتى بعد أن قررت المحاكم المستقلة رد عشرات الطعون التي قدمها هو ومناصروه لتغيير نتائج الانتخابات.
ومن الأسباب الأخرى لفهم ما حدث طبيعة هؤلاء المئات الذين قرروا اقتحام الكونغرس والذين وصفهم الرئيس المنتخب بايدن بالمتطرفين. هؤلاء مستقطبون سياسيا بشكل حاد من قبل خطاب ترامب الشعبوي التعبوي، متطرفون مستعدون لاستخدام العنف لكي يملوا آراءهم على الأغلبية وعلى مؤسسة الكونغرس.
نتائج ما حدث هي الأهم، والأرجح أن ترامب قد خسر كثيرا من داعميه ومؤيديه لخروجه عن قواعد اللعب الديمقراطي الذي أخاف الناس وهدد الديمقراطية الأميركية.
ترامب يظهر الآن كسياسي ورئيس يستقوي بالتطرف، لا يحترم القضاء المستقل الذي بت بالطعون الانتخابية، وهو انتهازي غاياته تبرر وسائله وإن لم تكن مشروعة. سيحتاج المجتمع الأميركي ونخبه الكثير من التعافي بعد حقبة ترامب، وأن يبادروا لترسيخ القيم المدنية والتعددية للديمقراطية من نبذ للعنف واحترام لسيادة القانون، وسيكون على النخب المثقفة الانتباه للشعبوية كظاهرة خطيرة صاعدة تهدد مباشرة الديمقراطية كنظام سياسي قائم، فبعد الذي حدث لا يجب أن تؤخذ الديمقراطية كمسلمة وبديهية سياسية بل قيمه مهددة قابلة للانهيار.
هذا ما حدث مع هتلر، الذي قدم للحكم عبر صناديق الاقتراع بفعل سياسي شعبوي، ثم ما لبث أن تحدى الديمقراطية التي جلبته لأنها تعارضت مع مصالحه. الشعبوية، أيا كانت صورها، إن لم تكن خاضعة لقواعد العمل السياسي الديمقراطي، تصبح المهدد الأكبر للديمقراطية.