فرص العمل في الزراعة تتناقص بمكننتها

كانت الزراعة قبل الثورة الصناعية مختلطة مرتين: مرة نباتياً وحيوانياً، ومرة أخرى تنوعاً زراعياً. بمعنى أن الزراعة كانت تجمع بين استغلال الأرض واستغلال الحيوان. كما كانت متنوعة أو تعددية؛ أي كان الفلاح يزرع كل ما يحتاج من مواد غذائية لنفسه، وللحيوان بما في ذلك للدواجن، التي يقتنيها. كما كانت الزراعة يدوية، تتم باستخدام أدوات بدائية كالمحراث الحيواني، والفأس والمنجل… والبيدر ولكنها كانت تستوعب جميع الأيدي العاملة تقريباً. كانت كل الأسرة تعمل فيها وكانت الأسرة منتجة.
وبالثورة الصناعية دخلت المكننة إلى الزراعة، وصارت الزراعة أحادية الإنتاج (قطن، بندورة، أو خيار…) يجب تصدير الفائض منه لشراء بقية المواد الغذائية النباتية والحيوانية اللازمة، نعم لقد زاد الإنتاج وزادت الإنتاجية، ولكن العمالة اللازمة لها أخذت تقل طردياً مع زيادة المكننة.
ولما كانت الصناعة البازغة جائعة إلى العمالة فقد انتقل الفائض الزراعي إليها. وبمكننة الصناعة نفسها صارت العمالة تفيض على حاجتها، وصار الفائض منها ينتقل إلى قطاع الخدمات؛ كالتعليم والصحة والصيانة والخدمات جميعاً وهكذا. كما صارت الأسرة مستهلكة.
لقد اندهش علماء الاقتصاد من عدم خضوع قطاع الخدمات لما خضعت له الزراعة والصناعة من تناقص في العمالة وعلى الرغم من دخول الآلة فيه. لقد ظل يطلب المزيد من العمالة على الرغم من تطوره. وعلى هذا المنوال انتهى أو ينتهي التطور الاقتصادي الحديث في كل بلد، ففي أميركا -مثلاً- يبلغ حجم العمالة في الزراعة والغابات 1.3 % من الطاقة العاملة. ومع هذا تنتج هذه النسبة ما تحتاج إليه الملايين في أميركا والخارج غذائياً نباتياً وحيوانياً، أما حجم العمالة في الصناعة والبناء فيبلغ نحو 19.7 % ولكنه يكفي لتغطية حاجات الملايين أيضاً، ويبقى 78.89 % من العمالة في قطاع الخدمات (سنة 2020).
وعندما لا يتواصل النمو الاقتصادي، فللنمو حدود وللاستهلاك حدود، وإن البطالة الناتجة عن ذلك تعيش على الضمان الاجتماعي، أو تتدحرج على منحدرات الفقر، الناجمة عن ذلك.
لقد تحولت الزراعة من فلاحة إلى زراعة ومن زراعة إلى صناعة لا تستطيع سوى الشركات الكبيرة والأرض الشاسعة القيام بها. لا يستطيع الفلاح ولا يستطيع المزارع مواصلة الزراعة كما عرفناها في اقتصاد الكفاف، فما بقي لهما من أرض لا يكفي لتلبية الحاجات الأولية للناس وبخاصة بعد تواصل تقسيم الأرض بمتوالية هندسية بالإرث، لدرجة أنها لم تعد تكفي لبناء بيت عليها. ويزداد الأمر سوءاً بالمنافسة الإقليمية والدولية في عقر الدار، فالثوم من الصين، والليمون من جنوب افريقيا، والبصل من الهند…
وعليه، أعجب أشد العجب من تصريحات المسؤولين الأردنيين الذين يعدون الناس بتطوير الزراعة لاستيعاب العمالة والقضاء على البطالة، وكأنهم يعدون باسترجاع عصر الزراعة المختلطة، الكثيف العمالة البائد، وهو أمر مستحيل، فلا المواطن مستعد للعمل بيديه في الزراعة كما كان يعمل أبوه أو جده، ولا الزارعة يدوية وبحاجة هائلة إلى العمالة.
وفي الأردن، تخلى الفلاحون والمزارعون وحتى خريجو كليات الزراعة عن العمل في الزراعة لصالح العمالة الوافدة، منتظرين الوظيفة الرسمية المدنية أو الأمنية، أو العسكرية التي كانت تأتي سريعاً، ثم صارت لا تأتي إلا بالقطارة، وبمرور الوقت تحولت هذه الحالة إلى تربية راسخة، فيموت الأردني ولا يعمل بيديه بانتظار الوظيفة.
نعم وألف نعم، لتطوير الزراعة واستصلاح مزيد من الأرض واستكشاف مصادر مياه كافية للزراعة لتغطية حاجات الأردن الغذائية وتصدير الفائض الزراعي إلى الخارج، ولكنه لا يتم بالزراعة المختلطة أو الكثيفة.
لعل المطلوب أولاً وقبل كل شيء وقف الزحف العمراني على الأرض الزراعية الباقية أو الصالحة للزراعة والزحف نحو الصحراء بدلاً من ذلك. والمطلوب ثانياً وقف التدهور البيئي باستصلاح الأرض الواقعة في الهامش بين الأرض الزراعية و الأرض الصالحة للزراعة في الصحراء. والمطلوب ثالثاً تصنيع الفائض الزراعي الموسمي على كل من الاستهلاك المحلي والخارجي. أما المطلوب الدائم فهو الملاءمة بين السكان والتنمية، ويبدو أن النمو السكاني في الأردن الطبيعي والطارئ يتجاوز النمو الاقتصادي والموارد مرات عدة وعلى حساب الأجيال المقبلة، ما يوجب إعمال التربية السكانية أو الإنجابية والتنمية المستدامة بالفعل لا بالكلام. قولوا لي بربكم هل يستطيع بلد تزيد ديونه على دخله القومي سدادها وهو يعطل يومين في الأسبوع.
يبدو أن الذين يعدون بحل مشكلة البطالة زراعياً، لا يعرفون في الاقتصاد الحديث أو يضحكون على الناس بانتظار ترحيل الأزمة إلى الحكومة التالية.

أخبار أخرى