أثارت تصريحات وزير الزراعة محمد داودية حول الواقع المزري الذي يعيشه قطاع الزراعة دويا واسعا في الأوساط العامة.
ما قاله الوزير وما تتناوله وسائل الإعلام بهذا الخصوص ليس جديدا البتة، والمشكلات التي رصدها سابقة لأزمة كورونا بسنوات طويلة، وعلى الأخص مشكلة التسويق الزراعي، والانهيارات السنوية المستمرة لأسعار الخضار والفواكه، وديون المزارعين، والعشوائية التي تضرب عمل القطاع.
وإذا ما فتح الباب لأي وزير في الحكومة أن يتحدث بصراحة عن المشاكل التي يعاني منها قطاعه، لقال كلاما أكثر فزعا مما ورد على لسان وزير الزراعة، وأظهر نفس المقدار من قلة الحيلة حيال الأزمات المتراكمة والمتوارثة في مختلف القطاعات.
الحكومة الحالية تسلمت مسؤولياتها على وقع أزمة صحية واقتصادية غير مسبوقة، ضربت البلاد وبلدان العالم كلها، ولم يتسن لها بعد أن ترفع رأسها لتنظر من حولها، فما تزال غارقة في معركة مكافحة الوباء، ولملمة أشلاء الأزمة وتداعياتها الكارثية على الاقتصاد والمجتمع.
الحكومات الأردنية المتعاقبة تعاني من أزمة أشد يمكن تسميتها بأزمة السياسات. كل حكومة تبدأ عهدها ببرنامج عمل يعد بخطط إصلاح لقطاعات التعليم والصحة والنقل والزراعة والاستثمار، وتتكئ في وعودها على رزم كبيرة من الإستراتيجيات والخطط المحكمة، يمكن أن نقول بصدق أنها خطط “متعوب عليها” وتلبي الحاجات المطلوبة والأهداف المنشودة. لكن ما أن يشرع الطاقم الوزاري في عمله حتى يجد نفسه غارقا في بحر من التفاصيل والواجبات اليومية ذات الطبيعة الإجرائية والثانوية. وللإنصاف فإن الوزير ومن خلفه الجهاز البيروقراطي في الوزارات، ينجز مثل هذه المهمات اليومية بدرجة عالية من الاقتدار والحرفية، فكل قرار إداري صغير تسبقه حزمة من المعاملات والمراسلات وينتهي لملف ضخم مليء بالأوراق والمستندات، يستهلك جهد وطاقة الإدارة. وما بين هذا وذاك مشاكل يومية طارئة في مختلف القطاعات، وساعات طويلة من الاجتماعات في الوزارة ومجلس الوزراء ولجانه، ومجلس النواب.
بالنتيجة تضيع الاستراتيجيات وسط أكوام المعاملات ولا يفطن لوجودها أحد، وحتى إن تنبه الوزير، فلا يجد الوقت للنظر فيها بأكثر من اجتماع شهري يبقى حبرا على ورق.
والإصلاحات المطلوبة في القطاعات الرئيسية هي الأخرى من النوع الثقيل والصعب وتتطلب مواجهات مفتوحة مع ثقافة سائدة وقوى مستفيدة من الوضع القائم، وجهاز بيروقراطي حقق مكاسب وغير مستعد للتنازل عنها، مثلما تتطلب في أحيان كثيرة إرادة سياسية لا تتوفر دائما في الحكومات، ناهيك عن ضغوط البرلمان الذي يعمل وفق حسابات شعبية ومصالح انتخابية تصطدم كثيرا مع حاجات الدولة الأكيدة لإصلاح قطاعاتها.
هذا ما حصل تاريخيا لخطط إصلاح التعليم والصحة، لا بل عملية الإصلاح الإداري برمتها. عندما تتأمل برامج الحكومات في العقد الأخير على الأقل، تتحسر على حجم البرامج الإصلاحية الضائعة، والفرص المهدورة. في وقت مضى كان الإصلاح الإداري العنوان الأبرز لبرنامج أكثر من حكومة، لكن بعد كل مخاض في هذا الميدان، يزداد حال الإدارة الحكومية ترديا وترهلا وتضخما، والنتيجة زيادة في أعداد الموظفين وتراجعا في القدرات والكفايات.
الزراعة حظيت بعدة إستراتيجيات ومثلها القطاع الصحي، لكن كيف يبدو اليوم حال القطاعين؟ لقد حدث توسع كبير في قطاع المستشفيات والمراكز الطبية، غير أن ذلك لم ينعكس على مستوى الخدمة وجودتها، والشكوى المريرة ذاتها على ألسنة المواطنين. والحال مع قطاع الزراعة لم يتغير، فقبل أزيد من عشرين عاما ونحن نخطط لتأسيس شركة تسويق زراعي ولم نتمكن من ذلك رغم تجربتنا السابقة في هذا المضمار.
طالما وصف رئيس الوزراء الأسبق عبد الرؤوف الروابدة أزمتنا بأنها أزمة إدارة، وهو محق بلا شك. المفارقة اليوم أن خبراتنا السابقة على امتداد مائة عام لم تسعفنا لتصميم بديل إداري يضمن المواءمة بين عمل الحكومات اليومي والتخطيط لتنفيذ الإصلاحات المطلوبة لديمومة العمل وتطويره بما يستجيب لمصلحة الدولة والمجتمع.